عبد المنعم سعيد

منذ زرت الصين آخر مرة في عام 2002 أصبحت متابعا ولاهثا حول التجربة الصينية في التحديث والتنمية. وكان السبب في ذلك زيارة سابقة لها في عام 1998، حيث كانت بكين لا تزيد على عاصمة بلد من بلدان العالم الثالث؛ ولكن بعد أربع سنوات أصبحت فجأة واحدة من عواصم العالم المتقدم. ومن ساعتها بات واحدا من الاهتمامات الفكرية أن أقرأ ما يكتب عن تلك التجربة، ومن بينها - بالطبع - ما يرد في الكتابات الأميركية التي تغرق عادة ما بين تمجيد التجربة، أو تغرق في الطريق المضاد، ولا ترى فيما يجري في الصين إلا حصاد عمل الشركات الدولية متعددة النشاط.

ولكن ما لفت نظري أكثر في الكتابات الأميركية المادحة للصين أنها جميعا أكدت على جملة متكررة بأنه رغم كل ما حققته الصين في مجال الصادرات والإنتاج والاقتحام للأسواق العالمية فإنه لا يوجد laquo;غوغل صينيraquo; وكان المعنى أنه لا يوجد إبداع صيني في المسألة كلها. وكان طبيعيا ساعتها أن أتساءل عما إذا كان هناك laquo;غوغل عربيraquo;؛ أو عما إذا كان ممكنا للمجتمعات العربية أن تنتج مثل هذه الظاهرة المذهلة من الابتكار والاختراع والإبداع التي جمعت ما بين تغيير حياة البشر، والثروة الطائلة في الوقت ذاته.

ومن الطبيعي أن laquo;غوغلraquo; ليس ظاهرة واحدة، فهناك سلسلة طويلة من المخترعات الكبرى التي غيرت من تاريخ العالم خلال العقود الأخيرة. وسواء كان صاحب ذلك الاختراع هو ستيفن غوبز laquo;أبلraquo; للكومبيوتر أو بيل غيتس صاحب laquo;مايكروسوفتraquo; أو هؤلاء التلاميذ الذين قدموا laquo;الفيس بوكraquo; وأيا من أدوات الاتصال الأخرى؛ فإن الموضوع هو قدرة المجتمعات على إنتاج العباقرة والمبدعين. ويعود الكثير من المحللين بالظاهرة إلى نظام التعليم، ويرون أن الوفرة الأميركية من laquo;غوغلraquo; تعود إلى تميز الجامعات الأميركية. فحسب التصنيف الذي تنشره جامعة laquo;شنغهاي جياو تونغraquo; الصينية منذ عام 2003 حصلت الجامعات الأميركية على 8 مراكز ضمن أفضل 10 مراكز على مستوى العالم، و54 مركزا من بين أفضل 100 جامعة على مستوى العالم أيضا، حيث حافظت جامعة هارفارد على المركز الأول في التصنيف للمرة الثامنة على التوالي، بينما جاءت جامعتا كاليفورنيا في بيركلي وستانفورد في المركزين الثاني والثالث، وحصل معهد ماساشوستس للتكنولوجيا على المركز الرابع، فيما جاءت جامعة كمبردج البريطانية في المركز الخامس، تلاها معهد كاليفورنيا للتكنولوجيا، ثم جامعات برينستون وكولومبيا وشيكاغو في المراكز التالية. وبالإضافة إلى قائمة أفضل 500 جامعة على مستوى العالم، تصدر مؤسسة (ARWU) تصنيفات أخرى لأفضل الجامعات على مستوى العالم حسب التخصصات المختلفة، حيث تتبادل الجامعات العالمية التي جاءت في القائمة الأولى مراكزها حسب تقدمها في هذه التخصصات. فعلى سبيل المثال، في مجال العلوم الطبيعية والرياضيات، حافظت جامعتا هارفارد وكاليفورنيا في بيركلي على مركزيهما الأول والثاني، أما المركز الثالث فحصلت عليه جامعة كمبريدج البريطانية، ثم جامعة برينستون في المركز الرابع. وحسب بعض التقديرات، تأتي الولايات المتحدة الأميركية على رأس دول العالم التي تولي اهتماما خاصا بالبحث العلمي، وهو ما انعكس في الميزانية الكبيرة التي رصدتها في هذا السياق والتي تقدر بنحو 144 مليار دولار من الأموال الفيدرالية، تشمل 86 مليار دولار للدفاع الوطني، و58 مليار دولار للأبحاث العلمية المختلفة، وتتضمن 31 مليار دولار في مجال علوم الصحة، وملياري دولار في مجال بحوث الطاقة، و10 مليارات دولار في مجال العلوم العامة، كما وصلت جملة النفقات على الأبحاث التي تحملتها الجامعات الأميركية الخاصة والعامة عام 2009 إلى 55 مليار دولار.

السجل العربي في كل ذلك ضعيف ومتواضع في أفضل الحالات، والجامعات العربية تكاد تختفي من قائمة شنغهاي وإذا ظهرت فإنها توجد في مكانة متأخرة؛ أما ميزانيات البحث العلمي فهي في أحسن الأحوال متواضعة وفي أسوأها تكاد لا توجد.

ولكن القضية ليست فقط التعليم وإمكانيات البحث العلمي، فالصين واليابان ودول كثيرة في العالم تنفق الكثير على كليهما؛ ومع ذلك فإن نصيبها من الإبداع قليل. وتختفي الصين واليابان من قائمة الحاصلين على جائزة نوبل، وإذا حصلت هذه الدول على هذه الجائزة فهي في الآداب أو البحث عن السلام. فالمسألة بالنسبة للولايات المتحدة والدول الغربية الأخرى أنها تضيف إلى التعليم والبحث العلمي مناخا من الحرية والمنافسة القاسية التي تجعل السباق فيه يكفي للخروج عما هو مألوف وشائع. ولا يكف المجتمع ولو ليوم واحد عن تقدير المبدعين في كل المجالات من الفنون إلى الصناعة إلى كل ما يحسن حياة الإنسان ويجعلها أكثر سهولة. ولم تكن هناك صدفة أن كلا من ستيفن غوبز صاحب laquo;آبلraquo; وبيل غيتس صاحب laquo;مايكروسوفتraquo; لم يحصل أي منهما على تعليم جامعي اللهم إلا من سبعة شهور للأول وعامين للثاني.

مناخ الابتكار هذا يكاد يختفي تماما في البلاد العربية، حيث لا يوجد احتفاء بصغار السن، وهناك تأكيد على دور الكبار في laquo;الحكمةraquo;، والأقدمية هي القاعدة الأولى للترقي والوصول إلى المناصب العليا. ويجد المجتمع صعوبة كبرى في تقبل الأفكار الجديدة، وفي كل مرة ظهرت فيها فكرة تتحدى أيا من laquo;الثوابتraquo; جرى نزع الشرعية عنها وصار لها من الشيطان مس. وتكاد جوائز الشعر والأدب تطغى على كل ما عداها من جوائز، ونادرا ما يتم إعطاء جائزة لرجل أعمال عربي، أو جائزة لمن حصل - بطريقة شريفة بالطبع - على ثروة عظمى كما هو الحال مع وارين بافيت صاحب laquo;وولمارتraquo; على سبيل المثال.

وربما لا توجد مجتمعات في العالم تمجد الحديث عن laquo;الثوابتraquo; القومية والوطنية والدينية والأخلاقية مثلما هو الحال بين العرب. وفي كل الدول العربية تقريبا فإن الماضي يبدو جاثما على الحاضر بثقل وعنف أحيانا، بينما الحال في أميركا والدول الغربية أن التغيير والمستقبل هما دائما صاحبا الحظوة اللذان يدرسان في المدارس، ويطرحان في الجامعات، ويتم الاحتفاء بهما في كل المؤسسات. الطريف في الأمر أنه رغم كثرة السفر العربي، والاختلاط بالأمم الأخرى الذي حتمته تفاعلات الحياة، فإن النظر إلى الدول الأخرى لم يدفع أبدا إلى الفضول حول أسباب التقدم لديهم ودوافع التأخر ناحيتنا. مثل هذا الفضول أولى خطوات النبوغ والتفوق، ولم يكن لـlaquo;غوغلraquo; أن يحدث ما لم يتصور صاحبه أنه من الممكن إقامة شبكة اتصال عالمية يتفاعل داخلها كل البشر، وحتى تطل من خلال laquo;غوغل إيرثraquo; على الكرة الأرضية كلها.