John Limbert Foreign Policy


طوال 30 عاماً، أظهرت الجمهورية الإسلامية قدرتها على كسب الأعداء من دون سبب وجيه، في محيطها (مثل الكويت) وفي الخارج (مثل الأرجنتين)، لطالما كانت محاولات طهران التعامل بدبلوماسية قصيرة الأمد، وسرعان ما تتحول إلى تهديدات قاسية ومطالبات بأراضٍ قديمة تعتبرها ملكاً لها. قد تكون الأحكام التي أطلقها الإيرانيون على العرب مترسخة أكثر من اللزوم، ما يمنع قمعها قبل فترة طويلة.

إذا ما صدقنا الرسائل التي تم تسريبها أخيراً عن وزارة الخارجية الأميركية، فسيتبين لنا أن بعض القادة العرب يحملون أفكاراً سلبية عن جارتهم الإيرانية، فضلاً عن وصف الإيرانيين بمصطلحات مثل laquo;كاذبينraquo; أو laquo;أفاعيraquo;، عبر قادة عرب أمام زائريهم الأميركيين عن أمنيتهم بأن تختفي هذه الدولة المجاورة المثيرة للمشاكل بطريقةٍ ما. يعتبر الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، الذي انزعج من هذه الألقاب القاسية، أن مسألة تسريبات موقع laquo;ويكيليكسraquo; هي مجرد مؤامرة خارجية هدفها نشر الفتنة بين الإيرانيين والعرب وتعزيز الادعاء الأميركي بأن إيران أصبحت عبئاً دبلوماسياً في منطقتها.

غير أن العدائية بين العرب والإيرانيين لا تنطبق على جميع البلدان العربية، إذ تتمتع إيران بعلاقات سوية، لا بل دافئة، مع دولتي قطر وسلطنة عمان المجاورتين لها، أما علاقاتها مع المملكة العربية السعودية والبحرين، فتتسم بالبرودة، بينما تُعتبر علاقاتها بالإمارات العربية المتحدة والكويت شبه معتدلة، وحين تصبح الأمور على المحك، يعمد الطرفان إلى وضع الأحكام المسبقة والمشاكل القديمة جانباً (سواء كانت صحيحة أو خيالية)، ويمكنهما التصرف خدمةً لمصالحهما الخاصة وسعياً للحفاظ على روابطهما الرسمية الودودة، لكن تبقى الصورة العامة سلبية، كما تشير المعلومات المسربة بشكلٍ صادم.

ما الذي يحصل بين الطرفين فعلاً؟ وما السبب الحقيقي وراء هذا الصراع بين المسلمين ودول المنطقة؟ هل ينتقد العرب إقدام الإيرانيين على التكلم عن أنفسهم حصراً أو عن شريحة أوسع من الرأي العام؟ ولماذا يلطم الإيرانيون على صدورهم دعماً لقضية فلسطين العربية؟ وهل يرغب السعوديون وغيرهم من العرب، على عكس ما يقولونه، في أن يهاجم الأميركيون- وبالتالي الإسرائيليون على الأرجح- إيران؟

تواصل مكثف... تفاهم ضئيل

من المعروف أن العلاقات العربية الإيرانية معقدة، لكن الطرفين، بغض النظر عن طبيعة علاقتهما، يتواصلان بشكل دائم. حيث يلتقي العالم الإيراني بالعالم العربي- على طول ساحلي الخليج، في جنوب غرب إيران، وفي العراق- يرتبط الشعبان بفعل التزاوج، والهجرة، وإتقان اللغتين، والتبادل التجاري. تتشارك غالبية العرب في البحرين والعراق الدين الشيعي الإسلامي كالإيرانيين، ويتكلم ملايين الإيرانيين الخوزستانيين العربية كلغتهم الأم. كذلك، يضم الشعب الإيراني (الأكراد) حوالي 20% من الشعب العراقي، وتنحدر عائلات عريقة كثيرة في جنوب إيران من دول الخليج العربي.

غير أن هذا التواصل المستمر لم يؤدِّ يوماً إلى أي تفاهم ملموس، إذ يسود انعدام الثقة وقلة التقدير من الطرفين تجاه laquo;الآخرينraquo; وعلى مستوى رؤيتهما للعالم. وتنجم بعض هذه الشكوك عن الاختلافات الدينية تحديداً. على الجانب العربي، تشعر العائلات السنيّة الحاكمة (في البحرين مثلاً) بالقلق من جماعاتها الشيعية المحلية. وبرأي الإيديولوجيين المتدينين المتطرفين من الجانبين، يُعتبر الناس الآخرون مجرد مهرطقين لا ينتمون إلى جماعة المؤمنين. يستمر الجانبان بمحاربة المعارك الطائفية التي تعود إلى القرن السابع. تذمر أحد العرب، لدى زيارته إيران، من أنه كان يُسأل دوماً: laquo;سيدي، هل أنت مسلم أم سنّي؟raquo;

وسط هذه المعمعة كلها، نجد أيضاً عند الطرفين عزة النفس الإثنية والوطنية المتطرفة، ويشعر الإيرانيون بالفخر بتاريخهم العظيم وبنجاحهم في الحفاظ على هوية مميزة طوال أكثر من 2500 سنة، عبر تاريخ مأساوي من الغزوات والهزائم. كذلك، يفخر الإيرانيون بلغتهم الوطنية، وأعمالهم الأدبية، وإنجازاتهم العلمية، ومناهجهم الدراسية، وفنونهم. في المقابل، يشعر العرب بالفخر نفسه بحضارتهم القديمة، وتقاليدهم، ولغتهم المميزة على وجه الخصوص.

لكن يتحول هذا الفخر في أغلب الأحيان إلى تعصب وطني مفرط، ما يدفع كل طرف إلى النظر بفوقية إلى الطرف الآخر والتقليل من شأن إنجازاته وحضارته، بالنسبة إلى الكثير من العرب، كان الإيرانيون متغطرسين، وثنيين، يحبون الترف ويعبدون النار، إلى أن نشر بينهم العرب رسالة الإسلام المستنيرة. وبالنسبة إلى الكثير من الإيرانيين، يُعتبر العرب مجموعة من البدو غير المثقفين الذين دمروا الحضارة الإيرانية العظيمة في الشرق الأدنى القديم، تتبدد هذه الآراء الراسخة في الذهن لدى اصطدامها بالواقع، ولكنها لاتزال موجودة وتستمر بممارسة قوتها للتأثير في الوضع.

يُضاف عامل جهل الآخر إلى هذه العدائية المترسخة... وعلى الرغم من التواصل والتفاعل طوال قرون، لا يعرف أي طرف الكثير عن الآخر، فماذا يعرف العرب والإيرانيون عن فنون الطرف الآخر، وأعماله الأدبية، وتاريخه، ومسيرته السياسية، وتقاليده؟ القليل فقط! ربما يشبه وضعهما العلاقات القائمة بين المكسيك والولايات المتحدة. يحب الأميركيون مثلاً الطعام المكسيكي (أو بعض أنواعه) والموسيقى المكسيكية. لكن ماذا يعرف الأميركيون عن ثقافة المكسيك وتاريخها؟ القليل فقط! في ظل هذا الجهل المتبادل، من الأسهل وصف الآخرين بـraquo;الكاذبينraquo; وraquo;الأفاعيraquo; وraquo;المهرطقينraquo; بدل بذل جهود حثيثة للتوصل إلى التفاهم المنشود.

أنظمة ملكية عربية مهددة بالزوال

إلى جميع هذه الاختلافات الدينية والإثنية، تُضاف الحقائق السياسية القاسية، فالدول العربية الخليجية هي عبارة عن أنظمة ملكية تقليدية تديرها أُسر حاكمة، في المقابل، تُعتبر جمهورية إيران الإسلامية دولة شعبية ثورية حيث يرتكز النموذج الجمهوري على أساس الحكم الديني. لم تكن السنوات الستون الماضية إيجابية بالنسبة إلى الأنظمة الملكية، فقد أُطيح بعددٍ لا يُستهان به منها: مصر (1952)، العراق (1958)، ليبيا (1969)، إثيوبيا (1974)، أفغانستان (1973)، إيران (1979). من هو النظام التالي إذن؟ لا أحد يستطيع لوم حكّام الدول الخليجية إذا كانوا يشعرون بأن أنظمة حكمهم مهددة، بما أن دولتهم المجاورة غير العربية شمالاً- وهي نشأت عن طريق ثورة أطاحت بأحد أعظم الملوك الإيرانيين- لا تكتفي باتباع شعائر دينية يعتبرونها هرطقة في الدين، بل تتبنى أيضاً إيديولوجيا ترفض فكرة النظام الملكي من أصلها! صحيح أن الجمهورية الإسلامية لم تكن يوماً بارعة في التعامل الدبلوماسي اللائق، لكن حتى ذلك التعامل اللائق الذي تمارسه الآن لا يستطيع إخفاء واقع رفضها للأنظمة الملكية باعتبارها غير شرعية.

تُضاف إلى هذا الخليط المرعب من العوامل السلبية قلة كفاءة إيران على المستوى الدبلوماسي، وهو ما عزز شكوك الدول المجاورة بها منذ فترة طويلة. طوال 30 عاماً، أظهرت الجمهورية الإسلامية قدرتها على كسب الأعداء من دون سبب وجيه، في محيطها (مثل الكويت) وفي الخارج (مثل الأرجنتين). لطالما كانت محاولات طهران التعامل بدبلوماسية قصيرة الأمد، وسرعان ما تتحول إلى تهديدات قاسية ومطالبات بأراض قديمة تعتبرها ملكاً لها. قد تكون الأحكام التي أطلقها الإيرانيون على العرب مترسخة أكثر من اللزوم، ما يمنع قمعها قبل فترة طويلة.

إيران ليست صديقتنا

عمدت الجمهورية الإسلامية، ربما بهدف إلهاء شعبها عن الإخفاقات الاقتصادية والسياسية الواضحة محلياً، إلى التركيز على القضايا العربية، فظهرت بصورة المدافع الشرس عن العرب أكثر من العرب أنفسهم، وتحديداً على مستوى إطلاق صرخات الدعم للفلسطينيين المظلومين خلال laquo;يوم القدسraquo; مثلاً، وهو يوم ألحقه الإيرانيون بشهر رمضان المبارك. غير أنّ هذه الخطوة لم تُكسِب إيران أصدقاء كثيرين في العواصم العربية، كونها اعتُبرت محاولة لإبعاد الحكومات المجاورة عن شعوبها. لقد أثارت هذه الحملات في طهران الشكوك في أن دافع الإيرانيين الحقيقي لا يقضي بمساعدة العرب المقموعين، بل بإحراج الحكومات العربية ndash; التي قد تكون أكثر قابلية للتعاون مع الإسرائيليين بدل التعامل مع شعوبها- وفي نهاية المطاف إعادة إحياء الثورة الإسلامية في البلدان المجاورة. في ظل هذه الظروف، لا عجب في أن الحكام في الرياض وفي دول أخرى قد يتمنون أن يفعل أحدٌ شيئاً للتعامل مع جارتهم المثيرة للمشاكل.

هل يريد العرب فعلاً خوض حرب مع إيران؟ على الأرجح لا، نظراً إلى العواقب الكارثية التي قد تترتب على صراع مماثل على المستويين الاقتصادي والسياسي. لكن نظراً إلى احتجاجاتهم المكبوتة بشأن جارتهم الإيرانية، القديمة منها والمستجدّة، فليس من المستغرب أن يعبّروا عن مشاعرهم السلبية أمام الزائرين الأميركيين الذين يشاركونهم مشاعر العدائية نفسها تجاه إيران، لكن لأسباب مختلفة جداً.

*رهينة سابقة في إيران، هو أستاذ في دراسات شؤون الشرق الأوسط في الأكاديمية البحرية الأميركية. في أغسطس 2010، غادر وزارة الخارجية الأميركية حيث عمل كنائب لمساعد وزيرة الخارجية في مجال شؤون الشرق الأدنى.