علي بن حمد الخشيبان

إذا استطعتَ أن تشاهد الحياة الاجتماعية من حولك من مكان مرتفع فسوف تدرك أن هناك نقاطاً وزوايا خفية لا يمكن مشاهدتها، بعض هذه النقاط سوداء وبعضها بيضاء وبعضها رمادي اللون ولكن عندما تكون في مستوى أفقي مع المجتمع فإن كثيرا من هذه الألوان سوف تختفي من أمامك لكونك في وضع أفقي لمشاهدة المجتمع وهذا لا يعني أنها اختفت ولكن المشكلة انك لم تعد تراها، وإذا أردت رؤيتها فيتطلب منك ذلك أن تصعد إلى نفس المواقع المرتفعة.

هذا يوصلنا إلى العلاقة الطردية الدائمة والتي تقول انه كلما قمت بملاحظة المجتمع بمستوى أفقي متواز معه اختفت من أمامك الصور الحقيقية للمجتمع ومشكلاته.

ترسخت الصور النقدية المباشرة في المجتمع حول مفاهيم متعددة فدائما في الخطاب الديني بشكل عام هناك اتهام مستمر للمجتمع بالتقصير واتهام مستمر للفرد بالتقصير هذا الاتهام المتواتر جعل منظمة كالقاعدة تستثمر الخطاب الاجتماعي لصالحها

قبل أيام أعلنت وزارة الداخلية في السعودية أنها قبضت على أعضاء تسع عشرة خلية نائمة من خلايا القاعدة خلال عملية أمنية بحتة من حيث الوسائل .

وكما هو معروف فالعمليات الأمنية لها طابع عسكري واستخباراتي يجعلها عملية حسية وهذا ما تم من قبل وزارة الداخلية خلال جميع العمليات ذات العلاقة بالإرهاب ابتداء من حادثة (جهيمان) وحتى آخر عملية.

الحقيقة أن هذه الخبرة الأمنية لجهاز وزارة الداخلية تبعث على الاطمئنان اجتماعيا ولعل احد أسباب نجاح هذه العمليات التي يتم فيها إحباط عمليات إرهابية أو القبض على متورطين فيها يعود إلى قدرة أجهزة الأمن على الارتفاع إلى مواقع تمكنهم من رؤية المجتمع من أعلى ولكن بهدف أمني يراقب التحركات الحسية ذات الكيان المتحرك والمرتبط بعلاقات تم كشفها بطرق أمنية حققت النجاح الأمني الذي نراه بهذه الدرجة الكبيرة.

السؤال المهم الذي يقلق المجتمع مع كل اكتشاف أمني يكون بين حصاده أفراد من أبناء المجتمع يدور حول صواريخ فكرية (للقاعدة) يمكن أن تصل إلى كل منزل في المجتمع من خلال رسائل فكرية تتفجر بطرق تقنية ولكنها تتفجر في العقول ثم تقوم بتحويل تلك العقول بطرق أيديولوجية إلى صواريخ حقيقية وهذه الصواريخ هم الأتباع الذين يخططون ويفجرون وينفذون أهداف الفكر القاعدي.

الخلايا التسع عشرة التي تم القبض على أعضائها تشكلوا عبر هذه الخلايا من اجل إلحاق الضرر بهذا المجتمع وغيره عبر عمليات سياسية واقتصادية واجتماعية ، أما العمليات السياسية فهي دفع المزيد من الشباب السعودي إلى مناطق الصراع في المواقع المضطربة ذات الأيديولوجيات الفكرية الداعمة لتأجيج الصراع بين الإسلام وغيره من الأديان والجماعات الفكرية والطائفية بهدف خلق شكل من الحرج السياسي للمجتمع .

أما العمليات الاقتصادية في التنظيم فهي قسمان إما جمع الأموال لصالح التنظيم وجعل المجتمع يشترك بطرق غير مباشرة في تمويل عمليات القاعدة أو إلحاق الضرر في المنشآت البترولية وتدمير مورد أساسي في الحياة الاقتصادية وهذا النوع من العمليات نتيجته شل الاقتصاد المحلي والعالمي وهذا يدخل في العمليات الإرهابية الأخطر ضررا.

العمليات الاجتماعية التي تحققها القاعدة في أكثر خطوطها نجاحا وهدفها تدمير التشكيل الفكري الاجتماعي وتناسقه الوطني عبر زرع منظومة من الأتباع هدفها خلخلة البنية الفكرية المعتدلة ونشر الأفكار المضادة للمجتمع، واستغلال فئات اجتماعية ترغب في زرع التشدد والتزمت في الممارسات الفكرية، وهذه خطرها يوازي اكبر عملية إرهابية قد تطيح بعشرات القتلى ، فالعملية الإرهابية تقتل عددا محددا ولكن عملية اجتماعية فكرية قد تساهم في قتل مجتمع بأكمله أو نسبة كبيرة منه وهنا موقع الخطر.

عندما استعرض الإعلام الخلايا التسع عشرة وفصل في أدوارها اكتشفنا أنها شملت في أهدافها عمليات (سياسية واقتصادية واجتماعية) فهناك احدى عشرة خلية من هذه الخلايا هدفها سياسي يخدم التنظيم فكلها تهدف إلى مساعدة المغرر بهم على السفر نحو مناطق مضطربة والجميع يعرف أثر هذا النوع من العمليات ودوره في وضع المجتمع في مواقف سياسية عالمية يصعب التعامل معها بسهولة.

ثماني خلايا لعبت دورا اقتصاديا في عملية التمويل وجمع المال لصالح التنظيم من المال الاجتماعي ومبلغ مليونين ونصف المليون تقريبا ليس بالرقم السهل جمعه ولكن التنظيم للأسف استطاع ذلك.

المفاجأة الكبرى أن جميع الخلايا التسع عشرة اشتركت في تنفيذ عملياتها الاجتماعية الفكرية فكلها تتحرك سواء جمعت الشباب وغررت بهم أو جمعت المال أو ساهمت في دعم التنظيم أو تحقيق أي هدف للتنظيم فهي بذلك حققت نجاحا في إيصال صواريخها الفكرية إلى عقول هؤلاء الأعضاء ثم بعد ذلك سلمت إليهم مهامهم التنظيمية بعد ضمان انتمائهم.

وتعتبر الخلية الثانية عشرة الأخطر بين تلك الخلايا لكونها قناة الاتصال ول اأعلم ما هي التسهيلات للتواصل مع التنظيم التي يحصل عليها مجموعة من غير السعوديين وهل ذلك للتمويه أم أن السبب مختلف وعميق وخطير قد يصل إلى أن هناك من يغطي على ادوار هذه الفئات تحت ذرائع عاطفية أو مجتمعية أو غيرها؟ فالمجتمع مليء بمن وجد نفسه محل ثقة لم يعرفها في حياته لمجرد انه غير شكله وهيئته.

كثيرا ما ردد المختصون في مناقشة وتحليل قضايا الإرهاب أن هناك نقاطا مختلفة الألوان (بيضاء سوداء رمادية) شكلت مواقف مختلفة من تنظيم القاعدة وذلك في ثنايا المجتمع؛ حيث يصعب التعرف عليها ورؤيتها، وبيان وزارة الداخلية أشار إلى شيء من ذلك وعلى الأخص بعض الأفراد الذين طلب منهم البيان توضيح موقفهم دون أن يشير إلى نوعية هؤلاء الأشخاص أو أين يتواجدون وكيفية تواجدهم ومواقعهم في المجتمع، هذه الإشارة تتطلب من كثير من الأفراد مراجعة مواقفهم من القضايا الفكرية المتشددة التي تخدم أهداف تنظيم القاعدة عبر تبني فتاوى متشددة أو مواقف متطرفة.

النظر إلى مشكلة الانتماء إلى القاعدة وظاهرة التغرير بالشباب السعودي نحو صراعات فكرية وتنفيذ عمليات إرهابية خطيرة يجب أن يخطو إلى الأمام نحو المعالجة الاجتماعية القائمة على ضرورة الاعتراف بالخطر الذي يمكن أن تخلفه أفكار القاعدة وأيديولوجياتها والتي أصبحت وبفعل التقنية والفضاء الإعلامي قادرة على الوصول إلى الشباب من خلال عملية اتصال مباشر بهدف تغيير سلوك هؤلاء الشباب بطريقة ماهرة وقائمة على ممارسة نفسية واجتماعية وفكرية.

الفكر الديني في المجتمع وعلى الأخص الفكر الموجه عبر الخطب اليومية أو الأسبوعية أو المحاضرات أو التجمعات هو فكر نقدي بالدرجة الأولى بل إن مادته الدائمة وخلال السنوات الماضية هي النقد سواء للمجتمع عبر اتهامه بالإخلال في تطبيق الواجبات أو الفرد وحثه على الالتزام بالتعليمات ونقد سلوكه أو نقد غير المنتمين للدين وكونهم خارج الدائرة وموقف المسلمين منهم.

هذه النقطة المهمة تبدو غير واضحة في المجتمع للكثيرين بل إن بعضهم لا يحس بها أبدا ولذلك لا يتم ملاحظتها وعلى الأخص أن الإرشاد الموجه في المجتمع سواء من خلال الخطب أو المحاضرات أو التجمعات يمارس عملية التواصل المباشر مع المجتمع ويدعم الصور النقدية المتكررة للفرد أو المجتمع أو غير المنتمين للإسلام، هذه الصورة ترسخت عبر الزمن وأصبح من الصعب انتزاعها وهنا تدخل منظمة كالقاعدة مستثمرة الخط الفكري النقدي لتكرس عملية النقد في قضايا سياسية واجتماعية.

مع الأسف فقد ترسخت الصور النقدية المباشرة في المجتمع حول مفاهيم متعددة فدائما في الخطاب الديني بشكل عام هناك اتهام مستمر للمجتمع بالتقصير، واتهام مستمر للفرد بالتقصير، هذا الاتهام المتواتر جعل منظمة كالقاعدة تستثمر الخطاب الاجتماعي لصالحها ، وهذا ما يتطلب إعادة النظر في الخطاب الاجتماعي وفقا لعملية تساهم في ترسيخ معاني الاعتدال والثقة في الفرد والمجتمع فيما يخص ممارساتهما الدينية دون مزيد من الشكوك ومزيد من الرغبة في تلقي المزيد من الجلد الاجتماعي والجلد الذاتي.