وليد نويهض
المسار الفلسطيني يمر في الطور الراهن بتعارضات صعبة تبدأ في جانب بإعلان الاستعداد لحل السلطة لكونها لا تتمتع بصلاحيات تحت الاحتلال مقابل الاستعداد للإعلان في جانب آخر عن قيام الدولة الفلسطينية في حدود العام 1967. هذا التعارض بين التهديد بحل السلطة وبين العزم من طرف واحد على إعلان استقلال الدولة يكشف ضمناً عن وجود مأزق في تحديد الخيارات وتعيين الأولويات.
حل السلطة يتعارض شكلياً عن إعلان الدولة. فالجانب الأول يكشف عن ضعف ميداني في التعامل اليومي مع نمو شبكة الاستيطان وتوغلها العمودي والأفقي في الضفة الغربية والقدس. والجانب الثاني يكشف عن قوة جاذبة تريد تحدي الوقائع الجارية وكسب تأييد دولي للقضية في وقت تبدو فيها إدارة واشنطن غير قادرة أو غير راغبة في ممارسة سلطتها والضغط على حكومة الثنائي نتنياهو - ليبرمان.
التعارض في الشكل لا يلغي جوهر الصورة وهي تقوم على معادلة الضعف والقوة في آنٍ ولكنها تؤسس للمستقبل فكرة تستحق الدفاع عنها وبذل التضحيات من أجل تحققها. دولة اللادولة فكرة تستند على مشروع افتراضي باعتبار أن إعلان الدولة خطوة رمزية ترد على التحدي القائم على الأرض وما تمثله سياسة الاستيطان الاحتلالي من متغيرات جغرافية - تاريخية تقوض الفكرة واقعياً.
دولة من دون دولة. هذا الخيار الفلسطيني يشكل بحد ذاته علامة على نمو مأزق يدفع بالتعارضات الصعبة إلى اتخاذ خطوات أكثر صعوبة في تعاملها الميداني ولكنها تبقى الأفضل من خيار الصفر. فالطرف الفلسطيني الآن غير قادر على تغيير الاستراتيجية الأميركية وتعاطفها الطردي مع laquo;إسرائيلraquo;. كذلك لا يستطيع منع الاستيطان بالقوة بسبب ضعف القدرة على المواجهة العسكرية. كذلك لا يستطيع إقناع الطرف المنشق على قبول التفاوض والعودة إلى خيار الوحدة الفلسطينية باعتبار أن laquo;حماسraquo; تتمتع بحكم قطاع غزة بالتعايش مع الاحتلال. وأخيراً يبدو الطرف العربي في وضع رسمي لا يستطيع تقديم الكثير سوى الدعم المعنوي والسياسي.
كل الخيارات الفلسطينية تتجه نحو المربع صفر في وقت بدأت تنغلق الأبواب أمام مسار المفاوضات المباشرة أو غير المباشرة بعد أن أبلغت واشنطن رام الله عجزها عن إقناع تل أبيب بوقف الاستيطان لمدة طويلة. فالاستيطان كما تقول إدارة البيت الأبيض سيستمر في حال وافقت السلطة على التفاوض أم رفضت. وترسيم حدود الدولة يحتمل التأجيل لأنه يرتبط بالبدائل ومفاوضات الحل النهائي التي قد تحصل أو لا تحصل بعد عشر سنوات.
أمام هذا الكم من الضغوط الخارجية والإقليمية والداخلية يصبح من الممكن تفهم أسباب الانفعالات الفلسطينية وإعلانها في وقت واحد عزمها على اتخاذ خطوات إجرائية متعارضة تذهب في جانبها السلبي إلى حل السلطة وتذهب في جانبها الإيجابي إلى التوجه نحو خيار الدولة.
الإعلان عن الدولة الافتراضية (الصورية) قبل قيامها واتضاح معالم حدودها يبقى الخيار الأفضل مقارنة بالتهديد عن حل السلطة وإلغاء ما هو قائم. حل السلطة يعني القبول بالأمر الواقع حتى لو كانت الوقائع الميدانية تعطي ذريعة مشروعة لمثل هذه الخطوة السلبية الاحتجاجية. بينما إعلان الدولة وكسب اعترافات الدول الشقيقة والصديقة (البرازيل والأرجنتين مثلاً) يعني رفض الأمر الواقع والاحتجاج على ما يحصل على الأرض انطلاقاً من تأكيد القناعة بالحق الذي لا يمكن أن يتآكل مع تقادم الزمن.
فكرة الدولة صورية ولكنها مستقبلية وهي مع الوقت تكتسب آليات حسية تعطي صدقية لمشروع حلم لا يتمتع الآن بالواقعية ويحتمل أن يتطور ليشكل تلك النواة الصلبة التي تلتقي عليها التعارضات الفلسطينية. فالسلطة المحاصرة من كل الجهات تحتاج إلى فكرة لتؤسس عليها قاعدة صلبة تبرر لشعبها والعالم لماذا هي لاتزال موجودة في لحظة تبدو فيها الأمور ذاهبة نحو المربع صفر.
إعلان الدولة قد يكون الجواب على معادلة الانهيار، لأنه يساعد على تأسيس مسار افتراضي يطمح نحو هدف محدد غير قابل للتفاوض أو التراجع. وهذا الأمر حتى لو ظهر وكأنه مجرد خطوة في فضاء غير مرئي يبقى أفضل من الاستسلام لمجرى الوقائع الميدانية وما تمثله المستوطنات من عناوين قهرية تلغي مستقبلاً حلم الدولة.
الأحلام عادة تسبق الواقع، كذلك المخيلة فإنها تساعد على اكتشاف آليات ذكية قادرة على التكيف مع صعوبات المرحلة والتقاط إشارات تلقي الضوء على مسارات مظلمة وغير واضحة. وإعلان الدولة في ظل الضغوط والتحديات قد يلعب دور القوة الدافعة للممانعة وتصليب الموقف حتى يكون له القدرة على الصمود في وجه انغلاق الأبواب ومن ثم لاحقاً اجتياز الحواجز والعقبات القائمة ميدانياً التي تمنع الناس على الحركة. وهذا الخيار في حال حصل وتم إقراره رسمياً من جانب السلطة فإنه لن يكون مخالفاً للطبيعة لأن الكثير من الصور في العالم الافتراضي (والمخيلة) يمكن أن تتحقق مستقبلاً.
هناك الكثير من الدول يعلن عنها قبل وجودها بأجيال ثم تتحقق لاحقاً. وهناك الكثير من الدول تقوم ثم تنهار بعد وجودها. فإعلان الدولة أحياناً لا يحتاج إلى وجودها حتى يعلن عن قيامها. مؤسس الصهيونية تيودور هرتزل كتب عن laquo;الدولة اليهوديةraquo; قبل 50 سنة من إعلانها غصباً وعدواناً بالتعاون مع الانتداب البريطاني وتحت مظلة laquo;وعد بلفورraquo;.
إعلان الدولة الفلسطينية هو وعد تاريخي مضاد أطلقه ياسر عرفات سابقاً ولم يتحقق حلم الخروج من النفق قبل رحيله. والإعلان يحتاج إلى تجديد الوعد حتى لو كانت كل المسارات صعبة ومغلقة وتؤشر إلى انهيار المعادلة والاندفاع نحو المربع صفر. إعلان الدولة لا يفترض بالضرورة أن تكون موجودة حتى تصبح مبررة ومعقولة. الصورة أحياناً تسبق الواقع كذلك المخيلة والحلم بالشيء أفضل من نسيانه لأنه على الأقل يعطي ذريعة لوجود أمل يمكن أن يتحقق في المستقبل.
لاشك أن المسار الفلسطيني يمر الآن في تعارضات صعبة تتراوح بين حل السلطة أو إعلان الدولة من طرف واحد. الخياران متناقضان ولا يلتقيان الأول يعبر عن اليأس والثاني عن الأمل... وبينهما تكمن سياسة القبول بالأمر الواقع ومراقبة تمدد شبكة الاستيطان على الأرض. والرد بتجديد وعد عرفات يبقى هو المفضّل لأنه على الأقل يعزز الثقة بوجود معنى لمستقبل افتراضي تتحكم بآلياته احتمالات شتى منها قيام دولة فلسطينية.
التعليقات