عبد الزهرة الركابي

لم يكن تصريح مسعود البارزاني بشأن حق أكراد العراق في تقرير المصير، مستغرباً أو غير متوقع إذا ما رجعنا إلى حقيقة موجودة في شمال العراق، وهي التي تتمثل في الكيان الكردي القائم منذ التسعينيات، بيد أن الاستغراب يتمحور في التناقض الذي وقع فيه الأكراد، وهم الذين استجاب لهم اليهودي الأمريكي نوح فيلدمان، عندما قام بتفصيل الدستور على مقاسهم، حتى يكون كيانهم القائم شرعياً، عبر إدخال صيغة الفيدرالية في هذا الدستور، وإذا كانت الفيدرالية نوعاً من الحكم الاتحادي الذي ليس له سابقة في النظام السياسي العراقي، فإن ما يؤخذ على الأكراد هو تقابلهم مع النظام الفيدرالي الاتحادي هذا، بعدما دعا البارزاني إلى حق تقرير المصير للأكراد، وبحضور (الترويكا) الحكومية والممثلة بجلال الطالباني ونوري المالكي وأسامة النجيفي .

والسؤال هنا: ماذا يريد أكراد العراق، وهم الذين يحكمون دولتين، الأولى في شمال العراق، والأخرى في بغداد من خلال المنطقة الخضراء، كما يحصلون على نسبة 17% من الموازنة العامة سنوياً؟

وإذا كانت المنطقة الكردية تحت سيطرتهم منذ التسعينيات مثلما هو معروف، فإنهم عمدوا بعد احتلال العراق، إلى جعل هذه المنطقة دويلة مستقلة بحق وحقيقة ما عدا التصريح بها وإعلانها رسمياً، حيث أسسوا لها بنى تحتية وعمرانية وأمنية بما في ذلك المطارات، وجيشاً يتراوح قوامه 90 ألفاً حسبما تروج المصادر الكردية، وهو يمتلك كل مقومات الجيوش النظامية باستثناء الطائرات الحربية، ولو كانوا يطلون على بحر ما لما توانوا عن تشكيل أسطول بحري .

وثانياً يحكمون مركزياً عبر رئيس الجمهورية وخمس وزراء بمن فيهم وزير الخارجية، وكذلك عبر نيابة البرلمان ورئاسة أركان الجيش ومناصب مهمة أخرى، ولأكراد العراق كل الحرية في التنقل في أي منطقة من مناطق العراق، في حين إذا ما أراد المواطن العراقي من سكان مناطق العراق الأخرى الدخول إلى المنطقة الكردية، يجب أن يحصل على كفيل كردي ليكون بمثابة سمة المرور والدخول .

لا شك أن الأكراد قد جسدوا حقيقة عملية انتهاز الفرص، ومنذ التسعينيات عندما جرى الحظر على الطيران العراقي، دخول شمالي خط العرض ،36 الأمر الذي ساعدهم في تأسيس اللبنة الأولى لكيانهم، وقد كان احتلال العراق فرصة كبيرة وذهبية، عندما استغلها الأكراد خير استغلال، عبر ترسيخ كيانهم وتعزيز بنيته الأمنية والعمرانية، إلى حد أصبح كياناً مستقلاً ومن دون إعلان .

من هذا الواقع، إن حق تقرير المصير لأكراد العراق، لا يمكن له الاستقامة في ظل الدولة الوطنية وبغض النظر عن ظروف وتبعات الاحتلال، لكن الأكراد ومثلما يبدو انتهزوا فرصة قرب انفصال الجنوب السوداني، حيث راحوا يجاهرون بحق انفصاليتهم القائمة، كتمهيد لإعلانها بشكل رسمي في المستقبل المنظور .

والعراق ليس الدولة الوحيدة في العالم التي تضم أقليات اثنية ودينية، بل إن منطقة الشرق الأوسط فيها دول عدة تتوزع خارطتها الاثنية والدينية على تنوّع في هذا الجانب، ولم يكن العامل القومي مهدداً للدولة الوطنية في هذه الدول، حتى رأينا أن دولاً مثل تركيا وإيران، ترتكزان على العامل القومي الحاضن في تثبيت الدولة الوطنية، وعدم السماح لاستيقاظ الحس الانفصالي سواء عند هذه الأقلية أو تلك، والدليل ان الفرس في إيران لا يشكلون أكثرية، والأتراك في تركيا أيضاً لا يشكلون أكثرية، بيد أن عامل تعدد القوميات تبنى الدولة الوطنية تحت حاضنة الفرس في إيران، وتحت حاضنة الأتراك في تركيا، مع التنويه بأن الدولتين المذكورتين تعانيان أيضاً من المشكلة الكردية بشكل أو بآخر، بيد أن الحجم السكاني للأكراد فيهما، يفوق حجم أكراد العراق بكثير .

وبالتالي، لماذا يرفض أكراد العراق، الدولة الوطنية بحاضنة عربية، والعرب أغلبية في العراق، مع العلم أن مرحلة الاحتلال وما جاء في الدستور آنف الذكر، منحهم مزايا وأفضلية أكثر وأكبر، إذا ما حسبنا حصتهم وقياساً على حجمهم الديمغرافي، ومع ذلك لم يكتفوا أو يقتنعوا بما حصلوا عليه؟

إن الأكراد مثلما هو معروف يتوزعون على دول عدة مثل إيران وتركيا وسوريا بالإضافة إلى العراق، وهذا التوزع الجغرافي، لا يمنحهم حق تقرير المصير في الدول المذكورة، لأن مثل هذا السياق إذا ما تم اعتماده، فهو يظل متاحاً للأقليات الأخرى في هذه الدول، للمطالبة بحق تقرير المصير، أسوة بالأقلية الكردية في العراق وفي الدول الأخرى، خصوصاً أن الدول المذكورة تضم أقليات متعددة، ومعنى هذا، أن الدولة الوطنية لن تقوم لها قائمة، مادامت مهددة بالعامل القومي أو العرقي، وعلى العكس من دوره الإيجابي في قيام الدولة الوطنية، وهو أمر قد حصل في أوروبا كمثال فرنسا وبريطانيا وإسبانيا وفي مناطق أخرى من العالم . وتحديداً فإن العامل القومي كان وراء قيام الدولة الوطنية في فرنسا التي كان فيها المتحدثون بالفرنسية أقلية حتى أواخر القرن التاسع عشر .