وليد نويهض

تتعرض هدنة الطوائف الهشة في لبنان دائماً لعواصف رملية وثلجية ساخنة وباردة من المحيط الإقليمي. والعواصف الداخلية محكومة بتلك المعادلة التي تنجح أحياناً في ضبط التوازن الأهلي وأحياناً تفشل في الإمساك بقواعد اللعبة ما يؤدي في حالات إلى انزلاق الجماعات إلى مواجهات دموية تكسر استقرار نظام المحاصصة ولكنها لا تدفعه باتجاه الانقلاب والتغيير.

صعوبة تعديل الصورة اللبنانية تعود إلى أسباب متقلبة ترتبط بالفضاء الدولي - الإقليمي ومدى استعداده لتقبل مشروع التغيير. فهذا البلد الصغير جغرافياً محكوم بمظلة يصعب تجاوز عتباتها من دون المرور برخصة العواصم العربية والجوارية وموافقة العواصم الأوروبية والأميركية.

تشكل هذه المظلة الواسعة الانتشار شبكة حماية للبلد الصغير وهذا الأمر أشار إليه البطريرك الماروني حين نبه إلى وجود مانع يعطل احتمالات المغامرة وكسر المعادلة اللبنانية. كلام البطريرك نصرالله بطرس صفير التحذيري جاء بمناسبة تصعيد خطاب الانقلاب الذي ورد في تصريحات متخالفة عن مراجع قيادية في حزب الله. فالكلام لم يستبعد احتمال الانقلاب على الدولة ولكنه حذر من عواقبه ومضاعفاته باعتبار أن لبنان ليس متروكاً ولا يعيش وحيداً أو بعيداً عن العالم.

السؤال هل يستطيع حزب الله فعلاً الانقلاب على الدولة واحتلالها كما تذهب بعض تصريحات قوى 14 آذار إلى القول؟ الإجابة الصحيحة تتطلب بعض عناصر الواقعية لتأكيد الاحتمال أو نفيه. وأول تلك العوامل الموضوعية تتطلب التوافق على وجود laquo;دولةraquo; حتى تكون مهددة بالانقلاب أو الاستيلاء عليها عنوة.

فرضية وجود دولة فعلية تشكل أهم موانع إسقاط احتمال الانقلاب والاستيلاء، لأن المنطق يبدأ بوجود الشيء حتى يقال إن هناك خطة سيناريو للانقضاض عليه ومصادرته. فهل يوجد فعلاً في لبنان دولة، كما هو متعارف على وظائفها، حتى يستطيع حزب الله الاستيلاء عليها؟ الإجابة الصحيحة تتطلب أيضاً التوافق على معنى وظائف الدولة في تعريفها المعاصر حتى تكون القراءة معقولة.

أول الشروط لتشكُّل laquo;الدولةraquo; هي أن تكون الطرف الوحيد الذي يحتكر السلاح (أدوات القوة) وألا يكون لها أي شريك أو وسيط أو مرادف لقوتها. هذا الشيء الجوهري في تعريف وظائف الدولة المعاصرة غير متوافر في الحالة اللبنانية.

ثاني الشروط أن تكون الدولة تمارس سيادتها على كل الأراضي من دون استثناءات حتى تكون مسئولة عن مختلف شئون المواطن الأمنية والدفاعية والقضائية والتنموية وغيرها من حقوق وواجبات. وهذا الشيء أيضاً غير متوافر في الدولة اللبنانية بسبب انحسار سلطتها عن الكثير من الأراضي ما يساهم في إضعاف قدرتها على التحكم بكل ما تشهده الساحة من توترات محلية أو عابرة للحدود.

هناك الكثير من الشروط غير متوافرة في laquo;الدولةraquo; اللبنانية ما يجعل احتمال وجودها الموضوعي والواقعي عرضة للتساؤل. فالدولة موجودة في العالم الافتراضي لكونها تقوم بوظيفة إدارية تتوسط السلطات المحلية وتمنع تصادمها ولكنها غير قادرة على ضبط التوازن في هيكل هرمي يضمن لها ممارسة سيادتها المطلقة على كل الأطراف.

إذن هناك عوامل داخلية تمنع حزب الله من السيطرة أو الانقلاب أو الاستيلاء، يمكن إضافتها إلى تلك العناصر الجوارية والعربية والإقليمية والدولية. والعوامل الداخلية تلك الناجمة عن العالم الافتراضي تعطي الرد الواضح على كل الفرضيات التي تتوقع أو تتخوف من إقدام حزب الله على تنفيذ خطة سيناريو تغيير صورة لبنان.

فرضية الانقلاب والاستيلاء مستبعدة منطقياً لأنها تتطلب مجموعة عوامل واقعية وعناصر موضوعية حتى يتوافر لها النجاح... وإلا ستكون الخطوات في هذا الاتجاه مغامرات متوالية لن تؤدي إلى نتيجة حاسمة. والسبب أن لبنان لا يوجد فيه دولة في المعنى الوظائفي المتعارف عليه بل مجموعة سلطات متعايشة في البرلمان والحكومة ومتساكنة ميدانياً على المراكز والأطراف.

هذه الميوعة في بناء الدولة يجعل كل محاولة للانقلاب مجرد فرضية نظرية غير قابلة للصمود والحياة مهما كانت قوة الطرف الذي قرر السير في مغامرة مجهولة العواقب. فالدولة اللبنانية في صيغتها الراهنة مجرد قوة وهمية في عالم افتراضي، ما يؤكد مقولة استحالة الانقلاب وصعوبة الاستيلاء.

لهذا مثلاً نجحت الانقلابات العسكرية في الجزائر وتونس وليبيا ومصر والسودان واليمن والعراق وسورية منذ الخمسينات إلى مطلع السبعينات وفشل الانقلاب العسكري اليتيم في لبنان في مطلع الستينات. والسبب ميوعة الدولة ولزاجة مؤسساتها وهو يعتبر العامل الموضوعي الداخلي الوحيد الذي يتكفل بإفشال أي رغبة في الانقلاب والاستيلاء.

تعدد مصادر السلطات (الطائفية، المذهبية، المناطقية) وتوزعها الجغرافي - الميداني على مراكز القوى يضعف قوة laquo;الدولةraquo; ولكنه يمنع السيطرة عليها واحتمال مصادرتها من خلال احتلال المطار ووزارة الدفاع والمرفأ ووزارة الإعلام (الإذاعة والتلفزيون). فهذه المواقع كافية في الدول العربية التي شهدت انقلابات عسكرية للإعلان عن نجاح الثورة وإذاعة البلاغ رقم واحد، بينما هي غير كافية في laquo;دولةraquo; لبنان لكون تعدد السلطات الأهلية يشكل تلك القلاع الجاهزة للمواجهة وبالتالي الاندفاع نحو تصادمات لا تستقر إلا بعد العودة مجدداً إلى المربع واحد.

حزب الله يدرك هذه التعقيدات. ويرجح أنه يمتلك المعلومات الكافية عن الفسيفساء اللبنانية التي تضعف وجود الدولة القوية والعادلة والقادرة من جهة وتقوي عزيمة السلطات المحلية التي تتشكل منها جمهورية الطوائف من جهة أخرى. وبسبب هذا التنوع في الوحدة والتعدد في مصادر القوة وعدم احتكار الدولة لها ترتفع الكثير من الحواجز والموانع التي تحد من طموحات الانفراد بالساحة وإخراج القوى الأخرى من معادلة التوازن الأهلي.

الدولة اللبنانية ضعيفة ومشلولة أساساً وهي لا تمارس حقها في السيادة ولا تحتكر السلاح، كذلك تعتمد نظام المحاصصة الذي يوزع مراكز القوى ويمنع توحدها في قنوات رسمية مضبوطة أو مسيطر عليها. وهذا الشيء الموجود في العالم الافتراضي يجعل كل محاولة للغلبة أو الاستيلاء مجرد مغامرة غير محسوبة وسيكون مصيرها الفشل.

التوقع المذكور أشار إليه البطريرك صفير حين أكد استحالة نجاح أي محاولة انقلاب ولكنه ضمناً لم يستبعد حصول المغامرة. الفرضية الأولى صحيحة أما الثانية فهي تحتاج إلى مراجعة وتصحيح لأن احتمال وقوعها يتطلب مجموعة عوامل واقعية وعناصر موضوعية منها أولاً وجود دولة فعلية تمارس حقوقها وواجباتها على كامل الأرض اللبنانية، ومنها ثانياً صعوبة اقتلاع السلطات المحلية من مناطق نفوذها وانتشارها... وأخيراً يستدعي الأمر سقوط نظام الحماية الإقليمي وموافقة دولية كبرى تغطي مفاعيل الانقلاب وتداعياته ومضاعفاته. لكل هذه الأسباب يمكن أن نجيب عن السؤال بترجيح عدم انجرار حزب الله لمثل هكذا مغامرة قد تكون بسيطة في حسابات الصورة ولكنها أكثر تعقيداً وتداخلاً في معادلة القوة وانبساطها الميداني على أرض متعانقة التضاريس في تركيبها البشري وتكوينها الطائفي وانفعالاتها السيكولوجية الأهلية.