حيدر إبراهيم علي


يعيش السودان حيرة مربكة لا يحسد عليها، إذ يطرح عليه كثير من الأسئلة، وقبل أن تكتمل الأجوبة ينتقل الناس إلى أسئلة أخرى جديدة.

ففي الأيام القليلة الماضية، شغل الدنيا شريط فيديو جلد الفتاة، ثم كان الإعلان رسميا عن حتمية الانفصال، فالمقايضة بين الوحدة والنفط، وأخيرا تسريبات ويكيليكس حول اختلاس الرئيس السوداني مبلغ 9 مليارات من عائدات النفط.

وفي هذه الأثناء تترى أنباء مناوشات الشريكين حول إجراءات الاستفتاء، ومشاورات دارفور المتعثرة. وفوق كل ذلك الارتفاع المنفلت للأسعار وتصاعد سعر تحويل الدولار. فهذا وضع مخيف وقلق، تحيط به المخاطر وعدم الأمان واليقين.

وحين لا تأتي المصائب فرادى يصعب التفكير الهادئ والعميق، وهنا تحدث الحيرة والارتباك. وكانت حادثة جلد الفتاة نموذجا للتفكير المشوش، ولم يستطع النظام الترافع جيدا والدفاع عن نفسه بطريقة مقنعة. وهذا ما يخشاه المواطنون، أن تضيع بوصلة الطريق، وأن يتوه العقل وهو يبحث عن المخارج.

كشف الحادث عن خلل واضح في عملية اتخاذ القرار وبالتالي من يتحمل المسؤولية؟ فقد تعددت الجهات التي ظهر ممثلوها في أجهزة الإعلام. وفي نفس الوقت، أنكر الجميع المسؤولية، خاصة الشرطة وأمن المجتمع.

ومن أخطر نقاط ضعف أي دولة أن يغيب الصدر الموحد لاتخاذ وتنفيذ القرار. ولكن هناك مدرسة تعدد الأصوات أو تقسيم الأدوار، مما يعني تشتيت جهود الخصوم وبعثرة دم عثمان. وهذا سلوك قد ينفع في البداية، ولكنه لا يصلح كسياسة مستدامة.

ولا أظن أنه نفع هذه المرة مطلقا حتى في البداية، لأن كثرة الأصوات تسببت في تضارب الأقوال والإفادات، لعدم التنسيق وسرعة ردود الفعل.

كان أكثر المبررات تداولا هو قدم الشريط، باعتبار أن العقوبة تمت في فبراير الماضي. ففي هذه الحالة لا تسقط تهمة التجاوز في طريقة تنفيذ العقوبة بالتقادم، وسوف يظل السؤال مهما كان وقت التنفيذ: هل هذه الطريقة في التنفيذ مقبولة وشرعية أم لا؟

ومن ناحية أخرى، حاول البعض تبشيع الجرم الذي قامت به الفتاة، لتبرير قسوة العقوبة وبشاعة الطريقة. وهذه خدعة نفسية قائمة علي أن الجريمة البشعة تتطلب عقوبة مماثلة. ونلاحظ في بعض الأحيان، من يطالب بتنفيذ إعدام مجرمي الاغتصاب في ميدان عام ليكونوا عبرة للآخرين.

وهنا وقع بعض المبررين في خطأ القذف والسب بتهم مجانية. وقد تحدث كثيرون، منهم والي الخرطوم والملحق الإعلامي في لندن، عن ممارسة الدعارة أو فتح بيت لتسهيل الدعارة، بالإضافة للمتاجرة في الهيروين. ولكن لو ثبتت هذه الجرائم، فهل يوجد أي نص شرعي يأمر بالجلد بمثل الطريقة التي رأيناها في أجهزة الإعلام؟

تحدث بعض المسؤولين عن استهداف السودان، وهو كلام يتردد دائما في مثل هذه الحالات. والسؤال: لماذا يتم استهداف السودان دون غيره من الدول العربية والإسلامية؟ الرد جاهز، وهو أن السودان دولة معادية للامبريالية وتقف ضد المصالح الأميركية في المنطقة.

وهذه حجة وجدت قبولا لدى بعض الاسلامويين والقوميين الباحثين عن أي أمل للمقاومة في المنطقة. ولذلك، أيدوا النظام السوداني دون تحفظ، خلال أسوأ فترات القمع في السودان.

ولكن واقع الأمور يخالف ذلك تماما، إذ بلغ التعاون الأمني بين النظام السوداني والولايات المتحدة الأميركية حدا بعيدا. وقد صرح أحد المسؤولين الأميركيين: laquo;لقد أعطونا أكثر مما توقعنا وطلبناraquo;.

فالنظام في حالة علاقة طيبة ويسعى لتحسينها، مع أميركا. كما أن أميركا تميل، خاصة في حالة الوفاء باتفاقية السلام، إلى تطبيع كامل وجيد مع السودان. وأعتقد أن النظام السوداني في الوقت الراهن، لا يطيق مساندة الصديق الجاهل الذي قد يفسد خططه المعتدلة وبعيدة المدى.

أبرزت قضية جلد الفتاة ـ مجددا ـ موضوع تطبيق الشريعة الإسلامية في السودان، من منظورات عديدة. وظهر الرأي الذي ينسب هذه القوانين إلى تشريعات سبتمبر1983، وقد درج كثيرون علي تسميتها laquo;قوانين سبتمبرraquo; ونسبتها إلى جعفر النميري، وليس للإسلام.

وذلك، باعتبار أنه سن تلك القوانين لتصفية حسابات سياسية مع الإخوان المسلمين، ولكنهم بادروا بدفعه إلى الأمام ومنحوا القوانين غطاء فقهيا وسياسيا.

وقد تجدد هذه الأيام نقاش: قوانين سبتمبر أم قوانين الشريعة الإسلامية؟ كما يتحدث البعض عن قانون النظام العام وأنه لا يستند على الشريعة الغراء، ويرون أن مقاصده سياسية وليست شرعية، لأنه يهدف إلى القهر والتخويف لدمج الناس سياسيا على المدى الطويل.

من النقاشات التي تجددت، كان البعض يرى أن العقيدة يجب أن تسبق الشريعة لأنها مقدمة عليها، وهذه مدرسة التربية أولا. وقد وصل الأمر بالبعض حد وصف المجتمع الحالي بالجاهلية، وأنه غير مؤهل لتقبل أحكام الشريعة.

وفي ذلك الوقت، لم يعدم الشيخ حسن الترابي ردا، فقال: laquo;وفي كل ذلك بعض الوجاهة، ولكن لئن تقدمت العقيدة على الشريعة في النظر، فإن الشريعة ليست إلا تعبيرا عن العقيدة، ولا خير في عقيدة لا يعبر عنها من خلال الشريعةraquo; (كتاب: مشكلات تطبيق الشريعة الإسلامية، ص7).

ورغم أنه رفض التدرج في تطبيق الشريعة لانها كانت قد شرعت فعلا، الا أنه توقع بعض التجاوزات، laquo;فقد يجوز الحكام أوضاعا غير شرعية بظاهر من تطبيق الشريعة، كأن يقولوا للناس: laquo;لا بأس سنطبق لكم حد السرقة، ثم يستثنون منه سارق الأموال العامة بحجة درء الحد بشبهة أن للموظف العام نصيبا في المال العامraquo; (ص17).

ويخشي الكثيرون من اختزال الشريعة في إقامة الحدود أو الاهتمام بالشكليات فقط، مثل الملبس والمظهر العام، والتغاضي عما يعتبر من الكبائر. والشيخ حسن الترابي نفسه حذر من بعض السلوكيات التي تنتهي بتطبيق الشريعة علي المستضعفين فقط.

هذا النقاش الذي دار مبكرا، نحن الآن في أشد الحاجة لمثله، لأننا نعيش تحت دولة رفعت شعارات تطبيق الشريعة منذ أكثر من عشرين عاما، ويفترض أن تكون قد بسطت مكارم الأخلاق، وأن يقدم أولياء الأمر القدوة الحسنة. لذلك، أثار شريط جلد الفتاة الأسئلة الحقيقية والعملية في التطبيق، وتجدد جدل كيف يمكن الاجتهاد للخروج من عباءة قوانين سبتمبر1983.

ومن المتوقع بعد الانفصال، أن ينشغل الشماليون بموضوع الشريعة أولا، أكثر من التنمية والتحول الديمقراطي والإصلاح والنهضة، باعتبار أن مشكلة الجنوب عطلتنا كثيرا عن تجويد هذه الأولوية.

فالشماليون موعودون بحروب أهلية فكرية وسياسية عديدة وطويلة، وستكون أكثر دموية إذا لم يتسلح لها السودانيون بكثير من العقلانية والبصيرة والإدراك العميق، فالأسئلة القادمة صعبة ومختلفة.