محمد السمّاك

من المقرر اجراء استفتاء في جنوب السودان في نهاية العام الجاري لتقرير مصير علاقته بالشمال. وستقرر نتائج الاستفتاء ما إذا كان السودان سيبقى دولة واحدة أم انه سينقسم الى دولتين جنوبية وشمالية؟.
الاستطلاعات الأولية ترجح ان المزاج العام في الجنوب هو نحو الانفصال وأن المزاج العام في الشمال هو نحو تقبّل الانفصال. السؤال الآن اذا حدث الانفصال في السودان هل يبقى العراق موحداً؟
يفرض هذا السؤال ذاته في ضوء الموقف الاميركي الجديد. يقول هذا الموقف انه اذا لم يتفق الزعماء العراقيون العرب والأكراد على صيغة لاقتسام السلطة، وعلى تحديد جغرافية اقليم كردستان، فان الولايات المتحدة المصرّة على سحب قواتها من العراق سوف تطلب من الأمم المتحدة ارسال قوات دولية للمرابطة على الحدود بين العراق واقليم كردستان.
وفي الواقع فان كل مقومات الدولة الكردية أصبحت قائمة في شمال العراق. الحكومة المحلية، والبرلمان، والجيش quot;البشمركةquot;. فالحكومة المحلية تعقد اتفاقات التعاون والاستثمار مع شركات أجنبية مباشرة. وهي ترتبط بالعالم مباشرة أيضاً. كما انها تعالج القضايا الحدودية مع دول الجوار إيران وتركيا وسوريا مباشرة كذلك.
اما اختلافاتها مع السلطة في بغداد فانها تتمحور حول عدة قضايا جوهرية وأساسية.
فالأكراد لا يقبلون بما هو أقل من رئاسة الجمهورية. والأكراد يصرّون على اعتبار كركوك (الغنية بالنفط) تابعة للاقليم الكردي. والأكراد يتمسكون باستقلالية قوات البشمركة المسلحة ويرفضون انضمامها بأي صيغة الى الجيش او الى قوات الأمن العراقية.
غير ان الأكراد ليسوا قوة واحدة وموحدة. فالقيادة الحالية الممثلة في تحالف البرزاني الطالباني تعتقد عن صواب ان المرحلة الانتقالية الحالية تحتم توفير مظلة من الثقة مع دول الجوار تمهيداً للعبور الى المرحلة المقبلة من دون اثارة مخاوف تعطل هذا العبور. الا ان هناك حركة كردية متطرفة تخوض صراعاً مسلحاً مع ايران. وهناك حركة اخرى تخوض صراعاً مسلحاً آخر مع تركيا. وتدرك الحكومة الكردية ان ذلك لن يؤدي فقط الى حرمانها من المظلة التي تحتاج اليها، ولكنه يؤلب دول الجوار ضدها ويثير مخاوفها من مبدأ قيام الدولة الكردية.
ومن المعروف ان الاكراد الذين يبلغ عددهم نحو 25 مليوناً موزعون على اربع دول هي تركيا وايران وسوريا والعراق. واذا كرس اقليم كردستان العراقي استقلاله بحماية قوات دولية، فان ذلك يشكل هدية معنوية كبيرة لتشجيع المناطق الكردية الاخرى على التحرك من أجل اقامة الدولة الكردية الموحدة.
لقد انكفأ حزب العمال الكردستاني طويلاً اثر نجاح المخابرات التركية باعتقال زعيمه عبد الله أوجلان في نيروبي في عام 1999، الا انه جدد تنظيم صفوفه من جديد بعد الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003. ومنذ عام 2004 أصبح الحزب مرة جديدة قوة عسكرية سرية منظمة. وقد كشف عن ذاته الان من خلال الضربات العسكرية الموجعة التي يوجهها للجيش التركي ليس فقد على طول الحدود التركية مع شمال العراق، انما في العمق التركي أيضاً.
ويبدو ان حركة انبعاث الحزب المسلح من جديد تأتي في اطار الصراع على الزعامة الكردية. ذلك ان تحالف البرازاني الطالباني الذي نجح في تحقيق الاستقلال الذاتي لاقليم كردستان دفع بحزب العمال الكردستاني رغم كل تضحياته الى الظل. والظهور الجديد للحزب يكاد يكون اعلاناً غير مباشر، بأنه صاحب الفضل بما حققه الأكراد من انجازات قومية، وانه بالتالي لا يقبل بأي معادلة تحوله الى ضحية وتحرمه من الشراكة في الانتصار.
وكان الحزب قد تشكل في عام 1978 على يد مجموعة من الطلاب الجامعيين الأكراد في تركيا. الا انه سرعان ما تحول من جمعية قومية سرية الى حركة مسلحة. ولقد لعب الحزب على حبل الخلافات التركية السورية، مما وفر لعناصره ملاذاً آمناً في سوريا وكذلك في لبنان الذي كان خاضعاً للنفوذ السوري. كما ان فصائل المقاومة الفلسطينية في لبنان احتضنت هذه العناصر الكردية وسهرت على تدريبها وتسليحها. ولكن عندما عادت العلاقات التركية السورية الى مجاريها الطبيعية، غادر عبد الله أوجلان لبنان فطاردته المخابرات التركية الى مخبأه الجديد في كينيا نيروبي واعتقلته وحكمت عليه بالسجن المؤبد. وهو لا يزال مسجوناً في موقع سري في احد الجزر التركية حتى اليوم.
ولكن ذلك لم يقضِِ على الحزب الذي تولت قيادته مجموعة جديدة من المتطرفين الأكراد، بحيث أصبح الحزب اليوم جزءاً من لعبة الأمم التي تجري في المنطقة.
من هنا فان القضية الكردية لم تكن في أي وقت قضية عراقية، ولا قضية تركية، ولكنها قضية اقليمية في الدرجة الأولى. فاستقلال كردستان العراق قد يكون الخطوة العملية الأولى نحو فرض اعادة النظر في خريطة المنطقة على أساس الحسابات العرقية، ومن ثم المذهبية والطائفية. ومن هنا العلاقة بين ما يمكن أن يحدث في جنوب السودان وما يمكن أن يحدث في شمال العراق.
ففي الوقت الذي تغرق فيه العاصمة العراقية بغداد في خضم خلافاتها وصراعاتها السياسية حول تقاسم السلطة بين الأحزاب والطوائف، تحاول أربيل عاصمة الاقليم الكردستاني أن ترسخ شرعيتها الدولية من خلال فك ارتباطها بالحركات الكردية المسلحة التي تقاتل على الجبهتين التركية والإيرانية. ولا شك في ان تمرير المشروع الأميركي بتشكيل قوة من الامم المتحدة للانتشار على الحدود بين الدولة العراقية واقليم كردستان سيكون أول عمل ترسيمي لحدود الدولة الكردية العتيدة !!.
ولا شك في أن الصراع المستجد بين تركيا وإسرائيل (على خلفية العدوان الإسرائيلي على أسطول الحرية في المياه الدولية ومقتل تسعة أتراك كانوا على متن احدى سفنه) وبين ايران والولايات المتحدة (على خلفية الملف النووي الإيراني) يصب المزيد من الزيت على النار المتأججة.
لقد وقع الأكراد ضحايا صراعات وتحالفات اقليمية ودولية عديدة. وقعوا ضحايا الصراع العراقي الإيراني في عهد صدام حسين الإمام الخميني، ووقعوا قبل ذلك ضحايا التفاهم العراقي الإيراني في عهد صدام حسين الشاه محمد رضا بهلوي. كذلك وقعوا ضحايا الصراع السوفياتي الأميركي أثناء الحرب الباردة.. ثم وقعوا ضحايا التفاهم الروسي الأميركي بعد انتهاء الحرب الباردة. ووقعوا ضحايا الخلاف السوري التركي، ثم وقعوا ضحايا التفاهم السوري التركي.
وفي ضوء هذه السلسلة الطويلة من التضحيات وما تحمله من تجارب باهظة الثمن، هل يمكن أن يطمئنوا الآن الى الوعود الأميركية بتوفير حماية دولية لهم؟. أم أنهم سيجدون أنفسهم كما جرى مراراً في السابق وجهاً لوجه أمام وقائع سياسية جديدة لا قدرة لهم على تغييرها؟.
ان الجواب على هذا السؤال رهن بما سيحدث في جنوب السودان. فإذا تكرس الانفصال هناك لا سمح الله، فان quot;صندوق بندوراquot; سوف يفتح على مصراعيه ليخرج منه كل ما في المنطقة من مشاريع انفصالية نائمة.. لعن الله من يوقظها.