عبدعلي الغسرة

من‮ ‬يقرأ التاريخ جيداً،‮ ‬ومن‮ ‬يعي‮ ‬الأمور جيداً‮ ‬يدرك بأنه ما من أمة على وجه الأرض تعرضت للضيم والعدوان والإذلال قدر ما تعرضت له الأمة العربية من مشرقها لمغربها،‮ ‬فهي‮ ‬دائمة الاستهداف،‮ ‬استهداف ضد وجودها وضد شعبها،‮ ‬ضد ترابها الموحد جغرافياً،‮ ‬ضد ما تحمل طيات ترابها من ثروات ومعادن،‮ ‬ضد موقعها الاستراتيجي،‮ ‬ضد رؤيتها وفكرتها القومية،‮ ‬وضد أحزابها وأشرافها من السياسيين والمفكرين والحزبيين المتمسكين بعروتهم الوثقى الوطنية والقومية‮. ‬

لقد حبا الله وطننا العربي‮ ‬بموقع جغرافي‮ ‬متميز وفي‮ ‬باطنه تبحر الثروات والمعادن،‮ ‬مثلما حباه الله بكثرة الأعداء الداخليين والخارجيين الذين‮ ‬يلتقون تحت مظلة هدف واحد،‮ ‬وهو النيل من هذه الأمة لكي‮ ‬لا تنتفع بما تملك من الثروات،‮ ‬وحتى‮ ‬ينساب خير هذه الثروات ومنافعها إلى مرافئ وجيوب هؤلاء الأعداء أفراداً‮ ‬ودولاً،‮ ‬تاركين الشعب‮ ‬يغرق في‮ ‬جهله وفقره وحاجته،‮ ‬وهو وريث الحضارة وتلك الثروات التي‮ ‬تحتضنها أرضه وأرض أجداده‮. ‬الأرض العربية ليست مستهدفة فقط بسبب موقعها الجغرافي‮ ‬وما تملكه من ثروات،‮ ‬بل لمكانتها الروحية السماوية لكونها منبع الديانات الثلاث،‮ ‬اليهودية والمسيحية والإسلام،‮ ‬ولم‮ ‬يكن النفط الذي‮ ‬تملكه الأمة سبباً‮ ‬في‮ ‬نماء بعض أقطارها فقط،‮ ‬بل في‮ ‬تكاثر أعدائها‮. ‬

وعلى الرغم مما تتحدث عنه العلوم الحديثة والتقارير الاستكشافية‮ ‬غير الصادقة عن انحسار الاحتياطي‮ ‬النفطي‮ ‬العربي‮ ‬إلا أن هذا النفط سيبقى هو الرئة التي‮ ‬تتنفس منها دول العالم واقتصادياتها،‮ ‬وكل ما‮ ‬يدور في‮ ‬هذا العالم من أحداث على أرضه لا تستهدف سوى هذه الثروة السوداء،‮ ‬ابتداءً‮ ‬من حكاية سايكس بيكو‮ (‬1916‮) ‬بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية لغاية احتلال فلسطين‮ (‬1947‮) ‬وباقي‮ ‬الأقطار العربية الأخرى حتى عصرنا الحاضر وخاصة بعد أحداث‮ ‬11‮ ‬سبتمبر الوهمية التي‮ ‬أفرخت‮ ‬غصناً‮ ‬آخر من هذه الحكاية،‮ ‬ألا وهو الإرهاب وولادة القاعدة والأحزاب والجمعيات ذات الولادة الغربية بأهداف ومرامي‮ ‬تقسيم الأقطار العربية الكبيرة إلى ولايات وأقاليم ليتم شحن ما تبقى من ثروات هذه الأمة إلى المرافئ الغربية‮. ‬خاصة بعد أن فشلت كل الخطوات الغربية والمخططات الأمريكية من إطفاء وهج الانتماء القومي‮ ‬للشعب العربي‮ ‬والتي‮ ‬حافظ به على عناصر تشكله الحضاري‮ ‬وتماسكه القومي‮ ‬وتوحده الشعبي‮. ‬

هذا التماسك ليس وليد اليوم أو الأمس القريب،‮ ‬بل كان موجوداً‮ ‬مع القبائل العربية في‮ ‬ما قبل الإسلام،‮ ‬والذي‮ ‬تأصل مع عهد النبوة والعصر الإسلامي‮ ‬مروراً‮ ‬بالدولة العربية الأموية والعباسية حيث كانت الدولة العربية واحدة في‮ ‬إدارة واحدة مع الولايات والأقطار الإسلامية الأخرى‮. ‬وحتى مع عهد السلطنة العثمانية لم تكن توجد حدود جغرافية أو سواتر ترابية بين هذا القطر العربي‮ ‬وذاك‮. ‬إلا أنه مع وجود الاحتلال البريطاني‮ ‬والفرنسي‮ ‬والإيطالي‮ ‬على الأرض العربية عمل المقص الغربي‮ ‬فعلته بجدارة في‮ ‬قطع أوصال الوطن العربي‮ ‬الواحد إلى قطع عربية متعددة،‮ ‬وأوغل في‮ ‬صدور حكامه العداوة ونشر بينهم الضغينة وكره فيهم الوحدة والاتحاد وقال لهم بشأنها‮ ''‬إنها من عمل الشيطان فاجتنبوها‮''.‬

كما تعرض بالأمس الوطن الكبير إلى التقسيم والتقطيع تتعرض اليوم الأوطان العربية الصغيرة إلى التقطيع،‮ ‬ففي‮ ‬العراق‮ ‬يتم العمل على استئصال شماله وغداً‮ ‬سيكون الموعد مع جنوبه،‮ ‬واليمن العربي‮ ‬الذي‮ ‬توحد في‮ ‬عام‮ ‬1990‮ ‬يجري‮ ‬العمل على تجزئته إلى‮ ‬يمنين،‮ ‬ومع وجود الصومال الفرنسي‮ ‬والعربي‮ ‬يتم الآن تدشين الصومال الإسلامي‮ ‬الثالث،‮ ‬وهناك طبخات تقسيمية أخرى تعد لعدد من الأقطار العربية‮. ‬

ومنذ سنوات‮ ‬يعمل على تجهيز مائدة تقسيم السودان إلى سودانين،‮ ‬الأول سودان شمالي‮ ‬والثاني‮ ‬جنوبي،‮ ‬وقد قدمت دوائر التقسيم كثيراً‮ ‬من المعطيات من أجل تحقيق هذا الهدف،‮ ‬كإذكاء الصراعات القبلية،‮ ‬وتأجيج التناحر بينها،‮ ‬وصدع كل منطقة بأفعال قاتلة وإجرامية‮ ‬يتهم فيها المنطقة الأخرى،‮ ‬يوماً‮ ‬في‮ ‬الشمال ويوماً‮ ‬آخر في‮ ‬الجنوب،‮ ‬وهكذا اشتعلت الحرب بين أخوة الوطن الواحد وبلوجستي‮ ‬سلاحي‮ ‬واحد،‮ ‬مصدره دوائر تقسيم السودان وعناصرها‮. ‬

تاريخ اللعبة قديم،‮ ‬وما‮ ‬يهمنا الآن هو كيف نواجه تقسيم السودان؟ هل هي‮ ‬مسؤولية الشعب السوداني‮ ‬في‮ ‬شماله وجنوبه؟ أم هي‮ ‬مسؤولية العرب أجمعين؟ وكيف‮ ‬يتحمل الشعب السوداني‮ ‬مسؤوليته في‮ ‬الدفاع عن وحدته وهو مقسم سياسياً‮ ‬إلى شمالي‮ ‬وجنوبي؟ وما هو موقف الأنظمة العربية من هذا التقسيم المرتقب بين‮ ‬يوم وآخر؟ وهل سيكون موقفهم أفضل من موقفهم من احتلال فلسطين؟ أم سيكون على شاكلة موقفهم من احتلال العراق؟‮ ‬

ليس من المستبعد أن هناك حكومات عربية تقف مع تقسيم السودان،‮ ‬وهناك تنظيمات وأحزاب عربية أيضاً‮ ‬تؤيد تقسيم السودان،‮ ‬وهناك من السودانيين ممن تتفق مصالحهم وأجنداتهم مع تقسيم السودان،‮ ‬ولا شك أن هذا الموقف‮ ‬يمثل ردة سلبية وتراجعاً‮ ‬للمد القومي،‮ ‬ويمثل كذلك نفخاً‮ ‬في‮ ‬محرقة الأقلية والأكثرية وإثارة عصبياتهم،‮ ‬وتكذيباً‮ ‬لمبدأ حق تقرير المصير للأقليات الثقافية والعرقية السودانية،‮ ‬ويعتبر مدخلاً‮ ‬لضرب الهوية والثقافة الوطنية السودانية،‮ ‬ومعولاً‮ ‬لتقسيم الوطن السوداني‮ ‬الواحد،‮ ‬هذا الرد والتراجع والنفخ والإثارة والتكذيب والتدخل والتقسيم مرفوض سودانياً‮ ‬وطنياً‮ ‬أولاً،‮ ‬وعربياً‮ ‬قومياً‮ ‬ثانياً،‮ ‬لكونها أنياب استعمارية تكشر ليس في‮ ‬أرض السودان فقط بينما في‮ ‬جميع الأقطار العربية‮. ‬

وهو مخطط استعماري‮ ‬تاريخي‮ ‬مدروس ومبرمج ويرى أصحابه وأنصاره أن وقته قد حان الآن وإن كان‮ ‬يلبس ثياب الديمقراطية ومبادئ حقوق الإنسان وحق تقرير المصير،‮ ‬وأن الاستفتاء على انفصال الجنوب عن الشمال ما هو إلا ذريعة وغطاء شرعي‮ ‬لذبح السودان من الوريد إلى الوريد وبأيدي‮ ‬أبنائه،‮ ‬ليشكل ذلك سابقة ومدخلاً‮ ‬لتفتيت الأقطار العربية الأخرى وتقسيمها إلى ولايات وأقاليم‮.‬

السودان قطر عربي‮ ‬يحمل تاريخاً‮ ‬مشرفاً‮ ‬في‮ ‬تاريخه العربي‮ ‬والإسلامي،‮ ‬وله وقفات خالدة إلى جانب أشقائه العرب في‮ ‬كل المحن التي‮ ‬واجهت الأمة العربية،‮ ‬ومن‮ ‬يلم بتاريخ السودان جيداً،‮ ‬ويعرف السودانيين معرفة حقيقية‮ ‬يدرك أن السودان لم‮ ‬يولد هكذا ممزقاً،‮ ‬وأهله لم‮ ‬يتنازعوا في‮ ‬السابق في‮ ‬أعراقهم،‮ ‬ولم‮ ‬يختلفوا‮ ‬يوماً‮ ‬في‮ ‬طوائفهم،‮ ‬بل كان السودان حتى منتصف خمسينات القرن العشرين‮ ‬يُشكل دولة واحدة مع مصر‮. ‬

وبعد أن نال استقلاله في‮ ‬عام‮ ‬1956‮ ‬مازال مستهدفاً‮ ‬بتقطيع أوصاله بسلسلة متوالية،‮ ‬والمطلوب اليوم موقف عربي‮ ‬جاد وملتزم تجاه السودان وشعبه،‮ ‬موقف ضد تقسيم أرضه إلى أرضين وتحويل شعبه إلى شعبين،‮ ‬وإذا كانت الحكومات العربية تناست فلسطين،‮ ‬وصمتت عن العراق،‮ ‬فلا تفعل ذلك ثالثة مع السودان‮. ‬

إن وحدة أرض السودان وشعبه تتطلب ثمناً،‮ ‬والحكومات العربية تمتلك فاتورة تلك الوحدة المناهضة للتقسيم والانفصال،‮ ‬وهو رفض التقسيم ورفض الانفصال،‮ ‬وهو السيناريو البديل لذلك المخطط الذي‮ ‬لن تكون إذا نجح السودان أولاً‮ ‬ولا هي‮ ‬آخره،‮ ‬وهي‮ ‬فاتورة تدفع ليس من أجل السودان وشعبه فحسب بل من أجل أن‮ ‬يكون للأمة العربية موقف عربي‮ ‬قومي‮ ‬واحد،‮ ‬وأن تكون الأقطار العربية باباً‮ ‬مفتوحاً‮ ‬للحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان المغيبة في‮ ‬كثير من الأقطار العربية،‮ ‬وستكون هذه الفاتورة سداً‮ ‬منيعاً‮ ‬ضد ولوج أعداء الأمة العربية واختراق سياجها‮. ‬وإذا حدث ذلك الانفصال فهو لن‮ ‬يكون أكثر من نتاج للمشهد العربي‮ ‬المؤلم بتناقضاته والبعيد عن تجسيد مفهوم الأمن العربي‮. ‬

فهل‮ ‬يعي‮ ‬السودانيون والعرب مسؤولياتهم التاريخية؟ وماذا سيختار السودانيون‮: ‬الانفصال أم دولة السودان الموحد بأرضه وشعبه؟