فيلما 'ابن بابل' و'المنطقة الخضراء': رسالة مؤدلجة وابتزاز عاطفي وتبرير لجريمة الغزو

محمود عبد الرحيم

ثمة ما يربط فيلم المخرج العراقي محمد الدراجي 'ابن بابل' بفيلم المخرج الأمريكي بول جرينجراس 'المنطقة الخضراء'، يتجاوز مسألة اختيار العراق مسرحا للأحداث الدرامية، إلى الرسالة التي تتشابه في الحالتين، وتركز بشكل رئيس على إدانة النظام العراقي السابق، وتحميله المسؤولية عن كل المآسي التي كان ولا يزال العراقيون يعانون منها، الأمر الذي يصب في الأخير في خانة تبرير جريمة الغزو الأمريكي للعراق.
باعتباره حقق ما كان يصبو إليه العراقيون، من التخلص من صدام ونظام حزب البعث، الذي جثم على صدورهم سنوات طويلة، ونالتهم منه صنوف العذاب والإيلام، فضلا عن توريط البلاد في حروب كان وقودها شباب قضى منهم من قضى، واختفى منهم من اختفى، أو بقي معاقا يعتصره الألم النفسي، فيما عانى الاطفال ذل اليتم والتشرد، وتلحفت النساء بالسواد والحسرة، وسط مصير غامض، وغد لا يدري أحد ماذا يخبئ له، حسبما تروج آلة الدعاية الأمريكية ورجال أمريكا في العراق حتى اللحظة، وعلى نحو يبدو كقنبلة دخان للتغطية على أكثر الجرائم بشاعة في التاريخ، وهي غزو شعب وتدمير بلده ومقدراته بشكل ممنهج، وانتهاك أبسط حقوقه الآدمية بشكل يفوق ما فعله النظام السابق، إن سلمنا بالاتهامات الموجهة له.
وفي الفيلمين حرص المخرجان على تغليف هذه الرسالة المؤدلجة ذات الطابع الدعائي، باطار عاطفي للاستحواذ على مشاعر المشاهد وضمان التأثير الوجداني فيه، واختيار توقيت الأيام الأولى للغزو للتهرب من المقارنة بين واقع الحال قبل وبعد الغزو، رغم أنه تم انتاج الفيلمين بعد سنوات طويلة من هذه الجريمة، وبعد أن تكشف الكثير من الحقائق، ووصول العراقيين أنفسهم إلى قناعة بأنهم يعايشون الوضع الأسوأ، بل وتحسر بعضهم على أيام صدام، خاصة بعد تفجر الصراعات المذهبية والعرقية الدموية، وإن كان الفيلم العراقي قد أفرط في اللعب على الأوتار العاطفية عبر المؤثرات الصوتية، خاصة الموسيقى ذات الطابع الجنائزي والمواويل الحزينة، إلى جانب توظيف الاضاءة للحصول على الايحاء النفسي بالحزن والفقد، بالاكثار من المشاهد الليلية، ومشاهد الغروب، إلى جانب لحظات الصمت المترافقة مع اللقطات الطويلة التى تستعرض حالة الخواء في الصحراء الممتدة أو الخراب الذي حل بالمدن، علاوة على الإطالة في لقطات مواكب التوابيت، وعملية البحث عن جثث المفقودين، وحالة النحيب التي يقوم بها النساء حسرة وألما على ذويهم، وكان يحرص غالبا على استخدام لقطة 'الكلوز آب' بدلالتها المعروفة، على نحو يحمل سمة الابتزاز العاطفي للمشاهد.
واختيار المخرج، الذي بدا مغازلا المهرجانات الدولية، أن يكون بطلاه طفلا وسيدة عجوزا تموت أثناء رحلة البحث عن ابنها المختفي منذ الحرب العراقية الايرانية، يؤكد هذا المنحى، الذي زاد عليه بجعل هذه السيدة كردية، ولم تتمكن من البحث عن ابنها إلا بعد سقوط النظام العراقي، ليستدعي من خلال هذه الاشارة العرقية، التهم التى تلاحق صدام من ضرب المناطق الكردية بالغازات السامة، وما يعرف بـ'حملة الانفال'، وحديث القمع العربي للاكراد وعمليات الإبادة واضطهاد الأقليات الأكثر من هذا هو وضع شاب (عربي) كان مجندا في السابق في المناطق الكردية، في طريق السيدة الكردية، لإبراز تهمة التمييز العرقي، وأن العرب أخطأوا في حق الأكراد المسالمين واضطهدوهم، وعليهم أن يشعروا بالذنب ويطلبوا الصفح، وسط حالة اجتزاء من السياق التاريخي، واغفال النزعة الانفصالية لدى الأكراد وتحالفاتهم المشبوهة التى قادت إلى احتلال العراق، وقبلها استقطاع كردستان بمساعدة واشنطن ودعم إسرائيلي، وجعلها مناطق خاصة ذات نفوذ كردي خالص، ولا تخضع للسلطة المركزية في بغداد منذ حرب العراق الثانية.
ويبدو تآلف الطفل العراقي (الكردي) مع المجند (العربي) السابق، كما لو كانت هذه هي صورة العراق الجديد المتسامح والمتآلف، وهي بالطبع عكس الحقيقة، وجعل الطفل يمسك طول الوقت بناي والده، كما لو كان هذا هو ميراث التحرر، والعزف هو صوت الحرية الذي انطلق مع الغزو، والذي يريد الرجل (العربي) الأكبر سنا أن يتعلمه من هذا الطفل (الكردي)، في رسالة رمزية، تشير إلى دور الأكراد في التغيير الذي يصح أن نصفه بالمؤامرة على تدمير العراق وغزوه تحت شعار'العراق الجديد الديمقراطي'.
وقد اختار المخرج أن يكمل ابتزازه العاطفي ورسالته المؤدلجة إلى النهاية بإنهاء فيلمه بلوحة سوداء مكتوب عليها أرقام ضحايا النظام العراقي، وهي النغمة التي يتم العزف عليها كثيرا في إطار تشويه صورة النظام السابق، وتبرير إزاحته تحت دعاوى'الديمقراطية وحقوق الإنسان'، بعد أن اتضح كذب الخطر العراقي وحجة امتلاكه لأسلحة كيماوية محرمة دوليا.
وهو المعنى الذي انطلق منه الفيلم الأمريكي، وعالجه بشكل مباشر ينحو نحو الواقعية وليس الرمزية، كما هي الحال في الفيلم العراقي، من خلال رحلة بحث عن مواقع أسلحة الدمار الشامل، ومحاولة اعتقال قيادي بارز بحزب البعث يمتلك تلك الأسرار، غير أن أحد الضباط المكلفين بهذه المهمة يكتشف أن مسألة الأسلحة لم تكن سوى كذبة، ويقرر كشف الحقيقة للرأى العام بإرسال رسائل الكترونية للقيادات الامريكية في واشنطن ولكل وسائل الاعلام.
غير أن الرسالة الأهم وغير المباشرة المقصود تمريرها عبر هذا الفيلم تبرز بقوة في مشهدي تبرير مواطن عراقي تعاونه مع قوات الاحتلال، بالقول بإنه 'من أجل مستقبلي ومساعدة بلدي'، و'إن ساقي المقطوعة في إيران'، التي قصد منها إبداء الرغبة في الثأر، لأنه هو وأمثاله دفعوا ثمنا باهظا في حروب صدام مع جيرانه.
ثم قيامه في نهاية الفيلم بقتل القيادي في حزب البعث بنفسه، وحين نربط بين جملته الدالة وقيامه بفعل القتل، نصل إلى المغزى المراد إيصاله من وراء هذا الفيلم 'أنه وإن كان الأمريكان قد كذبوا في مسألة أسلحة الدمار الشامل، فإن التخلص من صدام ونظامه كان حاجة عراقية ملحة تبررها ممارسته القمعية وتهديده للأمن الأقليمي، وأن التدخل الأمريكي كان بمثابة العصا التي كان يفتقدها العراقيون لضرب هذا النظام 'الديكتاتوري'.وقد بدا المخرج حريصا على جعل هذه الرسالة بين السطور، وسط اللجوء إلى القالب الأمريكي المحبب لدى جماهير المشاهدين' الأكشن' المصحوب بإيقاع سريع وتقنيات تصوير متطورة، وتقديم صورة الأمريكي 'البطل المثالي' المتمثل في الضابط ميلر الذي يبدو حكيما وعقلانيا وشجاعا، ويسعى لكشف الحقيقة، مهما كلفه ذلك من مخاطر.
إلى جانب، المشاهد التي يبدو فيها الأمريكان وأجهزتهم الاستخباراتية والعسكرية في حالة صراع، في إشارة إلى أن غزو العراق وما استتبعه من قرارات كارثية كحل الجيش العراقي وتفكيك المؤسسات وإحداث الفوضي المدمرة بهذا البلد العربي الكبير، لم يكن محل توافق، ومجموعة صغيرة فقط من صناع القرار الأمريكي الانتهازيين هي التي تتحمل هذا الذنب، وليس الجميع الذي كانت من بينهم أصوات عاقلة تعالت بالرفض والتحذير.
وكأنه يريد أن يحيلنا إلى خطاب الرئيس الأمريكي أوباما في بداية حكمه، وتبرئه من ميراث بوش، وعفا الله عما سلف.
ولكي يوحي المخرج للمشاهد بالموضوعية، وعدم التحيز، لجأ إلى الإتيان بمشاهد اقتحام منازل وترويع اطفال ونساء أو تعذيب للعراقيين، وإن كان لجأ إلى تبريرها بملاحقة كوادر حزب البعث أو انتزاع اعترافات تساعد في انجاز مهمتهم، بالإضافة إلى مشهد للعراقيين يتظاهرون احتجاجا على نقص الحاجات الأساسية، ومنها الماء والكهرباء، فيما الأمريكان داخل المنطقة الخضراء يجلسون في قصور النظام السابق، ويلهون بجوار حمام السباحة، وبجوارهم ما لذ وطاب.