عبد الرحمن الراشد

الأرجح أن ما يحدث في تونس اليوم بدأ عفويا، عبر المحتجون عن حالة احتقان سياسية واقتصادية، في أصله احتجاج حقيقي هول وشحن لاحقا وشجع من الداخل والخارج. ولأنه عندما تقع الضحية تكثر السكاكين، فأكثرها إيلاما ضد الحكومة التونسية سكين الجماعات الإسلامية، التي تعتبر تونس خصمها الأول لأسباب عديدة. فالحركة الإسلامية الحركية في تونس صاحبة معركة طويلة عمرها ثلاثون عاما مع النظام، وكانت قريبة من الانخراط في الحكم في تونس إبان العهد الأخير من حكم الحبيب بورقيبة ومرة ثانية في بداية حكم زين العابدين بن علي، لولا أنها اتهمت في المرتين بأنها استغلت الحرية السياسية الممنوحة لها لتنفيذ مخططات تآمرية ضد النظام. وهكذا جرت عمليات تصفيتها. وقد تكون التهم مزورة لإقصائها، وهو الأرجح، وقد تم بالفعل إلغاء وجودها الرسمي. إنما رغم أحكام السجن، والإعدام، وهروب معظم قيادات حركة النهضة إلى الخارج، فقد استمرت عنصرا معارضا قويا ضد النظام إلى اليوم.
لكن الحملة ضد تونس تأتي من بقية الجماعات الإسلامية الأخرى غير التونسية، التي تعتبر النظام التونسي هدفا لها أيضا، لأنه يمثل التجربة شبه الوحيدة الجريئة في إصلاحاته الاجتماعية، وإصراره على الاستمرار في حماية المكاسب البورقيبية للحريات الفردية بما فيها حق المرأة. هذه الجماعات تعتبر إفشال النظام التونسي ضرورة لتأديب بقية الأنظمة، وسد الطريق أمام الحركات ذات التوجهات الليبرالية التي تدعو للإصلاح والتطوير الاجتماعي. وكان تطوير الحقوق الاجتماعية، وبشكل خاص حقوق المرأة التي برزت تونس فيها، سياسة بدأها بورقيبة فجعلته الخصم الأول للجماعات الإسلامية الحركية التي حاربته ونجحت دعائيا في تشويه تجربته. الثورة البورقيبية الناعمة في المنطقة انكمشت في وجه الثورة الخمينية الشرسة التي لعبت العامل الرئيسي في تعطيل عجلة التقدم في المنطقة العربية، بتشجيعها وتصديرها ثورة معاكسة تماما. في تلك الفترة، الثمانينات، تأزمت العلاقة بين إيران وتونس إلى درجة القطيعة بتهمة استهدافها بدعم الجماعات الإسلامية المعادية للنظام. ومع أن كثيرين شككوا في دعاوى النظام البورقيبي حينها إلا أن السنوات اللاحقة أظهرت أن إيران فعلت الشيء نفسه مع بقية الدول العربية.
نجاح ثورة الخميني، وانقلاب الترابي، جعلا الحركات الإسلامية تعبر عن طموحاتها صراحة بالاستيلاء والتغيير من قبل laquo;أبناء الحركة الإسلامية على كل مراكز القوة والنفوذ الأمني والعسكري والتعليمي والإعلامي والاقتصادي بخلفية تفكيك تلك البنية الاجتماعية المتخلفة سبيلا لإعادة تشكيلهاraquo; وفق تصور أحدهم.
عراك تونس مع الجماعات الإسلامية لم ينته مع أن السلطة الرسمية نجحت في إبعاد خصومها الإسلاميين، وتهميش الحركة داخليا. ورغم شهر العسل الأمني الطويل ظلت الجماعات الإسلامية المصرية والإخوانية العالمية الأخرى مصدر التحريض ضدها. والأرجح أنها الصدى الواسع لمظاهرات بوسعيد الأخيرة، تساندها الحركات الإسلامية الأخرى.
تونس خسرت كذلك تأييد الجماعات الحقوقية والسياسية التي تعتقد أن النظام السياسي - وإن كان نجح في تأمين الحقوق النسائية وغيرها - قد تراجع في منح الحقوق الفردية، فلا تمارسه، وإن رفعت شعارات بورقيبة الإصلاحية. أضف هذا إلى معضلتي الفقر واللاشعبية التي تحدثت عنهما أمس من حيث انكشاف النظام، لأنه من دون شعبية وبلا مداخيل نفطية كبيرة وبوجود جماعات متربصة سيظل النظام في حالة استنفار وقلق دائمة.
تونس التي لا تملك الكثير لتعويض المحتجين، بسبب نقص مواردها وتراكم ديونها وتعالي الانتقادات ضدها في مجال حقوق الإنسان والإصلاح السياسي، هي في الزاوية الحرجة اليوم.