عبد الرحمن الراشد
بكل تأكيد دبي جنة للكثير من الباحثين عن النجاح أو إجازة مريحة، إلا أنهم ليسوا جميعا أصحاب هذه المآرب النزيهة. فالمدينة تبدو جنة أيضا لفئة أخرى لأنه سهل الدخول إليها، والعمل فيها، والترحال منها وإليها، والسكن فيها. يزور دبي أكثر من سياح الأهرامات المصرية والسواحل التونسية واللبنانية مجتمعة، بل وأكثر من حجاج مكة ومعتمريها خمس مرات. في مدينة يزروها 15 مليون نسمة، ويشكل الأجانب بين سكانها الدائمين نحو تسعين في المائة، من الطبيعي جدا أن يكون الأمن هاجسها الأول. المبحوح، الذي اغتيل في فندق البستان، شخصية قيادية في حماس تعمل سرا، دخل دبي بجواز مزور. تعقبه أحد عشر محترفا يمثلون فريق كوماندوز إسرائيلي. دخلوا المطار في وقت متقارب، بجوازات مزورة. لتضليل السلطات الإماراتية جاء كل واحد منهم على طائرة مختلفة، وسكنوا في فنادق مختلفة، وتخفوا بأشكال غيرت هوياتهم في الفنادق عما كانوا عليه في المطار. مع هذا تم رصدهم بعد ارتكاب الجريمة سريعا، رغم أن فنادق دبي مكتظة في مناسبة الإجازة المدرسية في المنطقة، مما يعني أن البوليس الإماراتي قام بفرز مئات آلاف الصور التقطت في ثمان وأربعين ساعة، واستطاع رصد المجرمين في كل دقائق اليوم الوحيد الذي أقاموا فيه في دبي، رغم أنهم تجنبوا استخدام البطاقات المالية، وكل ما قد يدل على هويتهم.
من الطبيعي أن تكون دبي المفتوحة قبلة كل الناس، بمن فيهم السيئون. قبل أربع سنوات صدمنا بقصة سرقة تشبه أفلام هوليوود، نفذتها عصابة دولية اقتحمت سوق الوافي بسيارتين، وحطمت واجهة محل مجوهرات، وسرقت منه ما قيمته أربعة ملايين دولار. بنفس الطريقة تعقبت الشرطة الفارين وقبضت على معظمهم، وآخرهم عن طريق الإنتربول أمسك به يتنزه في مونت كارلو. وليست كل الجرائم الكبيرة ترتكب بمسدسات وفرق اغتيالات، بل إن أصعبها تُرتكب بلا نقطة دم، ويكاد يستحيل تعقبها. فقد هجمت شرطة دبي على أربعة أفارقة في مقهى للإنترنت في حي الديرة، كانوا قد تمكنوا من سرقة مليوني دولار إلكترونيا من حساب بنكي. ورغم دقة الجريمة فإن اللصوص افتضحوا لاحقا أثناء تحويل المسروق من حساب وهمي إلى حقيقي.
الإسرائيليون ارتكبوا جريمة في حق الإمارات، لا حماس. الاغتيال جريمة سياسية خطيرة تفتح الباب لحروب سرية لا تقبل بها أي دولة في العالم، ودبي التي ذللت الصعاب أمام ملايين الباحثين عن العمل والربح والسياحة، وكسرت البيروقراطية، وخلقت نموذجا للحياة الحرة في المنطقة، مهددة بمثل هذه الجريمة وجرائم كبار العصابات. ومن الطبيعي أن تطارد السلطات الفاعلين حتى يعرف الجميع أن دبي سهلة الدخول، لكنها ليست عسيرة الخروج على المخالفين. وهذه حقيقة، فدبي صعبة حتى على مخالفي المرور الذين يظنون أنهم بعد أسبوع من الإجازة المريحة يستطيعون الهروب دون دفع ثمن مخالفات السرعة وقطع الإشارة الحمراء، حيث يجدون بالمرصاد لهم على باب الجوازات laquo;يمنع السفر إلا بعد دفع الثمنraquo;. على إسرائيل أن تعرف أن دبي ليست قبرص، وأنها بقدر ما تبدو وديعة وبسيطة فإنها غابة من الكاميرات وأجهزة الأمن المتطورة، التي لا ترى سياراتها في الشوارع، ولا تلحظ مخبريها يتلصصون على الناس في الفنادق. في جوازات مطار دبي يعاد كل يوم على أعقابهم عدد من الناس جاءوا بجوازات مزورة سبق أن طردوا من البلاد بسبب جرائم ارتكبوها. عند طردهم يتم تصويرهم، وعند عودتهم يمكن التعرف عليهم تقنيا من ملامح وجوههم مهما حاولوا تغييرها أو حملوا جوازات مزورة. القتلة الإسرائيليون خنقوا أو سمموا المبحوح، وبعدها نظفوا الغرفة من بصماتهم وآثارهم، ورتبوا أثاثها، وأغلقوا بابها من الداخل بسلسلة الأمان، بحيث يمكن تضليل أفضل شرطة في العالم أن الرجل مات طبيعيا، لكنهم الآن افتضحوا ووزعت صورهم في أنحاء العالم، وصاروا تحت الملاحقة الإعلامية والشخصية والسياسية!
التعليقات