صبحي حديدي

هذه المرّة جاء التعبير العنصري على لسان جيرار لونغيه، عضو مجلس الشيوخ الفرنسي ورئيس مجموعة حزب 'اتحاد الحركة الشعبية' الحاكم، صاحب الأغلبية في الجمعية الوطنية الفرنسية أيضاً، الذي أضاف واقعة جديدة إلى سجلّ التململ العنصري الصريح ضدّ وجود العرب والمسلمين، فضلاً عن السود والملوّنين، على أرض فرنسا!
وكان قصر الإليزيه، إنسجاماً مع سياسة الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي في 'الإنفتاح' على اليسار، وهي عملياً سياسة نصب الفخاخ لاصطياد بعض شخصيات 'الحزب الإشتراكي' غالباً، قد رشّح قيادياً سابقاً في هذا الحزب لرئاسة الهيئة الحكومية التي تُعرف باسم 'السلطة العليا للكفاح ضدّ التمييز ومن أجل المساواة'، ممّا أثار حفيظة لونغيه. وليس الأمر أنّ عضو مجلس الشيوخ الموقّر، وهو وزير سابق ونائب سابق وزعيم سابق لـ'الحزب الجمهوري'، يعترض على سياسة الإنفتاح ـ الإصطياد تلك، بل المشكلة أنّ المرشّح لا يحمل اسم جان أو بيير أو فيليب، بل يدعى مالك بوطيح، أو بالأحرى عبد الملك بوطيح، المتحدر من أصول عربية، لا سيما وأنّ الرئيس المنتهية ولايته يدعى لويس شفايتزر. وهكذا اعتبر لونغيه أنّ بوطيح ليس 'الشخص المناسب' للمنصب، لأنّ الهيئة التي سيتسلمها 'تعني انفتاح فرنسا على الجاليات الجديدة. شفايتزر، ممتاز! بروتستانتي عتيق، ممتاز! البرجوازية البروتستانتية العجوز، ممتاز! أمّا إذا عيّنتم شخصاً رمزياً، من الخارج، فإنكم تعرّضون العملية بأسرها للفشل'.
والحال أنّ بوطيح ليس 'من الخارج' إلا بمعنى اسمه وأصوله، لأنه ولد في ضواحي باريس سنة 1964، وصرف سنوات حياته في الصحافة والعمل العامّ والحزبي داخل فرنسا، كما تولى رئاسة المنظمة الحقوقية المعروفة SOS Racisme، وكان أحد الأمناء الوطنيين في 'الحزب الإشتراكي'. إلى هذا، وهنا بعض مفارقة التفكير العنصري، لم يشفع للرجل أنه يُعدّ أحد الساركوزيين القلائل في صفوف اليسار الفرنسي (وهنا، أغلب الظنّ، مكمن حماس الإليزيه لترشيحه). كما أنه لا يكفّ عن مغازلة مجموعات الضغط اليهودية الفرنسية، وأقدم على اتهام منظمات حقوقية فرنسية بأنها معادية للسامية، تسير في مظاهرات تهتف ضدّ إسرائيل، أو تستقبل 'أصوليين' من أمثال الباحث الإسلامي طارق رمضان.
قبل لونغيه كانت نادين مورانو، الوزيرة المنتدبة لشؤون الأسرة والتضامن، قد أرادت من 'الشاب المسلم'، وحده وبالتسمية الحصرية، 'أن يشعر بأنه فرنسي لكونه فرنسياً، وأن يحبّ فرنسا لأنه يعيش في هذا البلد، وأن يبحث عن وظيفة، وأن لا يتكلم بالفرنسية الركيكة، وأن لا يرتدي قبعته مقلوبة'. قبل هذه وذاك، كان المعلّق الصحافي الشاب إريك زيمور، النجم الشعبوي اليميني شبه المهرّج، قد برّر قيام الشرطة بتدقيق هويات العرب والسود أكثر من سواهم، بالقول: 'لأنّ الغالبية الساحقة من مهرّبي المخدرات هم من السود والعرب، وهذه حقيقة'. ويبقى تفصيل يحمل الكثير من المغزى: زيمور فرنسي، من أصول يهودية جزائرية، وكان ذات يوم قد تفاخر بأنّ أسلافه عاشوا بأمان مع العرب، طيلة 1000 سنة!
وقبل الثلاثة كانت الثائرة قد ثارت ضدّ الحجاب، لأنه يهدد العلمانية وينتقص حقوق المرأة؛ ثمّ حمى الوطيس ضدّ البرقع (كما في التسمية الرسمية الأولى، التي سُحبت حين تبيّن أنها غير دقيقة، فاستُبدلت بـ'الحجاب المتكامل'!)، لأنه، إلى جانب التهديد والانتقاص إياهما، يمسّ القٍيَم الجمهورية؛ وأخيراً، استعر النقاش حول 'قضية' لم تكن تخطر على بال: اللحم الحلال، لأنه ينطوي على التمييز بين المواطنين! والحكاية أنّ شركة Quick، الشهيرة، المختصة بالوجبات السريعة، قرّرت وضع 6 من مطاعمها الـ 362 المتواجدة على الأرض الفرنسية، في اختبار تقديم اللحم الحلال وحده، في المناطق التي تقطنها غالبية ساحقة من المسلمين.
واتضح، بالفعل، أنّ إقبال الزبائن زاد بنسبة 30'، وبالتالي صار صائباً بالمعنى الاقتصادي المحض أن تفكّر الشركة في تحويل الاختبار إلى قرار دائم، لا سيما أنّ سوق الوجبات السريعة شهد انتعاشاً ملموساً بلغ 4,5 مليار يورو، بزيادة 15'. لكنّ عمدة إحدى المناطق التي تنوي Quick افتتاح مطعم حلال فيها، وينتمي إلى الحزب الإشتراكي للإيضاح، ذهب إلى حدّ التقدّم بشكوى إلى القضاء، ضدّ هذا التمييز. ذريعته تسير على منوال الحقّ الذي لا يُراد منه إلا الباطل، فهو يعلن أنه ليس ضدّ اللحم الحلال، ولا يناهض حقّ الشركة في تنويع وجباتها، ولكنه يعترض على إجراء لا يساوي بين الجميع في الحقوق.
كأنّ فرنسا، بلد اليعاقبة والأنوار والثورة الفرنسية، لم يعد لها من شغل شاغل سوى ترصّد العرب والمسلمين، والحملقة في ما يكمن وراء الأكمة من أخطار ناجمة عن عباداتهم ولباسهم وطعامهم ولهجاتهم. الغائب الأكبر في هذه الوقائع هي الأبعاد السياسية والثقافية والتاريخية والاجتماعية لظواهر (لأنّ من السخف اعتبارها محض ظاهرة واحدة متماثلة متطابقة) معقدة شائكة متباينة ليس من الحكمة أبداً ردّها إلى باعث عقائدي أو عقيدي واحد، أو حتى سلسلة اسباب ذات صلة بما يُسمى صراع الحضارات وحروب الثقافات. في عبارة أخرى أشدّ اختزالاً للمشهد: ثمة السياسة أوّلاً، وقبل العقائد؛ وثمة ميزان القوّة الكوني الراهن، في تجلياته العقائدية والدينية والثقافية، ثانياً؛ وثمة، ثالثاً، ذلك التاريخ الطويل من حروب الإخضاع والهيمنة والغزو، على الجانبين.
وبالطبع، وهذه قد تكون الأدهى، حين يجرّد الغرب الإرهاب من مضامينه السياسية والاجتماعية والثقافية، فإنّ ما يتبقى منطقياً هو تلك المقاربة الوحيدة الرائجة في السوق، والتي يحدث أيضاً أنها جذّابة تماماً: الإسلام، وصدام الحضارات! ولقد رأينا كيف صارت الحال حين جاءت هذه الأطروحة في مقالة واحدة نشرها صمويل هنتنغتون سنة 1993، حول صدام الحضارات، فأقامت الدنيا ولم تقعدها، قبل أن تحمل المقالة جنينها على امتداد ثلاث سنوات صاخبة، فتلده أخيراً في شكل كتاب ضخم، محشوّ بالتنميط السهل والفزّاعات التبسيطية والتشخيصات الكونية المطلقة.
ويكفي أنّ روسيا بوريس يلتسين، المدججة بالسلاح النووي والمافيات الوحشية والفقر الرهيب، بدت في نظر هنتنغتون أقلّ خطورة بكثير من وضعية الإسلام المعاصر، لا كدين وديانة مرّة ثانية، بل كثقافة مرشحة أكثر من سواها لتدشين صراع الحضارات، الصيغة القادمة لاندلاع الأزمات والحروب والتحالفات في العلاقات الدولية. لماذا انفرد الإسلام، وما الذي ميّزه عن سواه من الحضارات الستّ الأخرى (الصينية، اليابانية، الهندية، الغربية، الأمريكية اللاتينية، والأفريقية) التي ستتصادم وستتصارع في القرن القادم؟ باختصار، أجاب هنتنغتون، ويستبطن إجابته أمثال لونغيه ومورانو وزيمور هذه الأيام: لأن 'الإسلام حضارة مختلفة عن سواها، وأهلها على قناعة تامة بتفوّق ثقافتهم على سواها، ولأنهم مهووسون بفكرة تدنّي قوّة أبناء هذه الحضارة عن سواهم'.
ليس مدهشاً، إذاً، أن يعود التفكير الغربي إلى أطروحات هنتنغتون كلّما ثارت خصومة بين الإسلام والغرب، أو بالأصحّ بين المؤسسات التي تحسن إدارة هذه المعارك وتتقن فنون تأجيجها، في الغرب كما في الشرق، في المسجد كما في الكنيسة، وفي الشارع كما على شاشات الفضائيات. ولقد بات معروفاً الآن أنّ أطروحة هنتنغتون نهضت على القول بأنّ الثقافة والهويات الثقافية (وهي، في مستويات مضامينها الأعرض، ليست سوى هويات حضارية) هي التي تصنع اليوم أنساق التجانس والتنافر، التصالح والتنازع، السلام والحرب، في عالم ما بعد الحرب الباردة هذا. وثمة، هنا، خمسة تشخيصات للأنماط القادمة من حروب البشر:
ـ السياسة الدولية، وللمرّة الأولى في التاريخ، باتت متعددة الأقطاب ومتعددة الحضارات في آن معاً. فالحداثة لم تعد سمة مقتصرة على الغرب، والتحديث لم يعد قرين 'التغريب' وبالتالي توقف عن إنتاج حضارة كونية ذات معنى.
ـ هنالك انتقال لتوازنات القوّة بين الحضارات: الغرب يضمحل تأثيره، والحضارات الآسيوية تتوسع في جانب اقتصادياتها بصفة خاصة ولكن في جبروتها العسكري والسياسي أيضاً، والإسلام ينفجر ديموغرافياً ويترك عواقب تهدّد استقرار البلدان المسلمة وجيرانها أيضاً. باختصار، الحضارات غير الغربية تعيد التشديد على قِيَم ثقافاتها.
ـ ولا مناص من أن يفضي التشخيص إلى النبوءة، واحتمالات انبثاق نظام عالمي جديد (نعم، غير ذاك الذي انتظرناه بعد حرب الخليج الثانية!) قائم على أسس حضارية. معادلته المركزية هي التالية: المجتمعات التي تشترك في الخصائص الثقافية تتعاون مع بعضها البعض، والبلدان هذه تتمحور وتتمركز من حول البلد أو المركز الذي يمثّل قلب الحضارة ورمزها، وفي غمرة ذلك كله سوف تبوء بالفشل جميع الجهود لرأب الصدع بين الحضارات، وتقريب الخصائص الثقافية المبعثرة.
ـ لا مناص، أيضاً وبالتوازي، من تكاثر الديناميات التي تحتّم اصطدام الكونية الثقافية الغربية (بوصفها المركز الأفضل لرأب الصدع بين الحضارات) مع الكونيات الثقافية لحضارات أخرى... في طليعتها الإسلام بطبيعة الحال. أكثر من هذا، سوف ينفرد الإسلام بتأجيج تلك الصراعات الداخلية الدامية، التي لن تدور بين ثقافة إسلامية وثقافة غربية أو صينية أو أمريكية لاتينية مثلاً، بل بين الإسلام وحده من جهة، والثقافات 'اللا ـ إسلامية' أياً كانت، من جهة ثانية.
ـ التشخيص الخامس هو بيت القصيد، لأنه في الواقع لائحة نصائح يسردها هنتنغتون ليس فقط من أجل أن لا ينهزم الغرب في معركة الحضارات الطاحنة (وهذه يفهمها المرء، فالرجل أمريكي، غربي، ابن التراث اليهودي ـ المسيحي كما يتقابل مع تراثات أخرى إسلامية أو صينية أو هندية)، ولكن أيضاً من أجل أن... يهزم سواه (وهذه يصعب فهمها في ظلّ دعوة هنتنغتون إلى مركز ثقافي كوني يتسع لجميع الحضارات، وجميع أبناء البشر). والمثير هنا أن نجاة الغرب بأسره تعتمد، في يقينه، على مدى نجاح الولايات المتحدة في تأكيد هويتها الغربية من جانب أول، ونجاحها في جعل الغربيين يقتنعون بأن هويتهم الحضارية فريدة Unique وليست كونية Universal من جانب ثانٍ.
ولكن هل يحتمل العالم المعاصر كلّ هذا الشدّ والجذب، الإيديولوجي والعقائدي، حول ديانة باتت ملجأ المؤمن المعذّب ودريئة الإرهابي في آن، خصوصاً بعد افتضاح برامج العقائد الأخرى اليمينية واليسارية والقوموية أياًَ كانت درجة الصدق في علمانية فلسفاتها؟ وهل تمرّ احتقانات كهذه دون عواقب وخيمة، حين يعلن الغرب دفاعه عن قِيَم الحقّ والحرّية والاختلاف، ثمّ تنتهك مؤسساته أبسط تطبيقات هذه المبادىء، تحت راية الأمن ومحاربة الإرهاب؟
من الواضح أنّ تجاسر أمثال لونغيه ومورانو وزيمور على تأثيم المهاجرين عموماً، والعرب المسلمين خاصة؛ واحتدام السجالات حول مسائل الحجاب والعبادات والهوية الثقافية، في المناسبات الإنتخابية تحديداً؛ ليس سوى أحد وجوه استعادة، واستعار لهيب، الأطروحات الخمس السالفة. وثمة مَنْ يساجل بأنّ ما يجري في أوروبا اليوم، بدءاً من حرب المآذن في سويسرا وانتهاء بحرب اللحم الحلال في فرنسا، أسوأ من إعادة إنتاج تلك الأطروحات، لأنه يبدو أحياناً بمثابة ابتذال لخلاصاتها بعد تسخيف مقدّماتها. والفارق جليّ وصارخ، بالطبع، ولكنه أيضاً رهيب ومخيف!