خيرالله خيرالله

كان الخيار واضحاً بالنسبة إلى كل من لديه حد أدنى من العقل والتعقل. هل من وسيلة أخرى لاسترداد الأرض غير المفاوضات، هل هناك خطة عربية لخوض حرب مع إسرائيل... أم هناك خطة سلام عربية وافق عليها العرب بالاجماع؟ لذلك، ولأن الفلسطينيين، ممثلين بالسلطة الوطنية، تصالحوا مع العقل ومع أنفسهم في الوقت ذاته، لم يكن من خيار آخر أمامهم وأمام العرب سوى القبول بالمفاوضات غير المباشرة مع إسرائيل تحت سقف زمني محدد لا يتجاوز الأربعة أشهر. كان أن استخدم العرب والفلسطينيون عقلهم، وهذا حدث نادر في التاريخ الحديث، فتولوا تغطية العودة الفلسطينية إلى المفاوضات وذلك في سياق السعي إلى إعادة الحياة إلى مبادرة السلام العربية التي أقرتها laquo;قمة بيروتraquo; في العام 2002. هذا السياق يشكل بدوره غطاء للعرب الذين شاؤوا إيجاد مبرر لموقفهم من المفاوضات الفلسطينية- الإسرائيلية.
كان الجانب الفلسطيني في حاجة إلى التغطية العربية لسبب في غاية البساطة. يعود هذا السبب إلى أن حكومة بنيامين نتانياهو تستفز الفلسطينيين يومياً، وتفعل كل ما في استطاعتها من أجل أن يدخلوا أنفسهم في لعبة المزايدات التي لا طائل منها والتي ستقودهم في طبيعة الحال إلى الاصطدام بالسياسة الأميركية. هناك هدف إسرائيلي لم يتغيّر يوماً. يتمثل هذا الهدف في قطع طريق واشنطن على أي مسؤول فلسطيني. ألم يعتبر ارييل شارون في العام 2001 أنه انتصر على ياسر عرفات، رحمه الله، بالضربة القاضية لمجرد أنه استطاع إغلاق أبواب البيت الأبيض ابتداء من العام 2001 في وجه الزعيم التاريخي للشعب الفلسطيني؟
تبدو العودة إلى المفاوضات اللعبة الوحيدة المتاحة امام الفلسطينيين. يبدو واضحاً أنهم استفادوا من أخطاء الماضي القريب. رفضوا قبل كل شيء أن يكونوا وقوداً في معارك لا علاقة لهم بها يخوضها المحور الإيراني- السوري هذه الأيام بأدواته الإقليمية المعروفة مع الإدارة الأميركية بهدف التوصل إلى صفقة ما معها على حساب كل ما تقع عليه يدا المحور، أكان ذلك في فلسطين أو لبنان... أو العراق.
في الواقع، كان هناك خياران آخران أمام الجانب الفلسطيني. يتمثل الخيار الأول في رفض العودة إلى المفاوضات غير المباشرة التي سيرعاها الأميركي. وهذا يعني عملياً الاستسلام لبيبي نتانياهو الذي سيؤكد عندئذ نجاح سياسته القائمة على الادعاء أن لا وجود لشريك فلسطيني يمكن التفاوض معه. في النهاية نتانياهو هو التلميذ النجيب لأسحق شامير الذي لم يذهب إلى مؤتمر مدريد في العام 1991 إلاّ تحت الضغط الأميركي. ولما ذهب إلى مدريد، صرح بأن إسرائيل ستفاوض عشرة أعوام من دون التوصل إلى نتيجة، لكنها ستعمل على خلق وقائع على الأرض في اثناء المفاوضات. هناك الآن رغبة إسرائيلية واضحة في خلق وقائع على الأرض تكرس الاحتلال للقدس الشرقية وجزء من الضفة الغربية عن طريق الاستمرار في توسيع الاستيطان وحتى إقامة مستوطنات جديدة. لكن الجانب الفلسطيني الذي يعي تماماً هذا الواقع يعمل على مقاومته عن طريق ابقاء مشكلة الاستيطان مطروحة بشكل دائم، وهو لن يكون قادراً على ذلك من دون المحافظة على علاقة طيبة مع الإدارة الأميركية، بغض النظر عن مدى ضعف إدارة باراك أوباما تجاه كل ما هو إسرائيلي من جهة، وعدم قدرتها على تنفيذ الوعود التي قطعتها في الماضي لرئيس السلطة الوطنية السيد محمود عبّاس من جهة أخرى.
أما الخيار الآخر أمام الجانب الفلسطيني، فكان خيار المقاومة المسلحة. هذا الخيار يخدم بيبي نتانياهو أكثر مما يخدمه خيار الاكتفاء بالإعلان عن رفض التفاوض. كانت تجربة عسكرة الانتفاضة في أواخر العام 2000 وأوائل العام 2001 أفضل دليل على ذلك. كذلك، تعطي تجربة غزة والحرب الأخيرة التي شنتها إسرائيل على أهل القطاع فكرة مختصرة عن مخاطر العودة إلى السلاح. إلى الآن، ورغم مضي أربعة عشر شهراً على توقف الحرب، لا يزال عشرات الآلاف في العراء ولا يزال الحصار الظالم لغزة مستمراً، ولا تزال laquo;حماسraquo; أسيرة الأسير الإسرائيلي جلعاد شاليط. الأهم من ذلك، أن الصواريخ التي كانت تطلقها laquo;حماسraquo; من غزة والتي كان مفترضاً أن تحرر فلسطين من البحر إلى النهر، صارت بقدرة قادر صواريخ laquo;الخيانة الوطنيةraquo;، وصارت laquo;حماسraquo; تلاحق مطلقي الصواريخ.
إذاً، ستكون هناك عودة إلى المفاوضات. من فوائد الإعلان عن تلك العودة بغطاء عربي أنها تأتي قبل أيام من انعقاد اجتماع في موسكو للجنة الرباعية التي وضعت laquo;خريطة الطريقraquo; التي تقود إلى قيام دولة فلسطينية مستقلة. ستعقد اللجنة اجتماعاً في العاصمة الروسية بحضور وزيري الخارجية الأميركي والروسي والأمين العام للأمم المتحدة وممثلي الاتحاد الأوروبي. سيؤكد الجانب الفلسطيني قبل انعقاد اللجنة أنه لا يزال ملتزماً laquo;خريطة الطريقraquo; وأنه نفذ ما عليه تنفيذه. ليس مستبعداً أن تكون نتائج اجتماع موسكو في التاسع عشر من الشهر الجاري في مصلحة الجانب الفلسطيني. ولكن ما سيكون أهم بكثير من الاجتماع الموقف الذي ستتخذه الولايات المتحدة خلال المفاوضات المباشرة. هل ستقدم اقتراحات خاصة بها، هل تؤكد ما سيق وأعلنته مراراً عن أن المفاوضات، أي مفاوضات، أكانت مباشرة أو غير مباشرة، لا يمكن إلا أن تستند إلى مرجعية واضحة هي خطوط العام 1967؟
في كل الأحوال، مثلما أن إسرائيل تسعى إلى خلق وقائع على الأرض، فإن الجانب الفلسطيني لا يمتلك سوى مقاومة هذا الخيار سلماً بعيداً عن المزايدات والشعارات الفارغة. كيف ذلك؟ تكون المقاومة باستغلال المفاوضات من أجل متابعة بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية laquo;القابلة للحياةraquo;. على الجانب الفلسطيني ألا يفقد الأمل. لديه قضية محقة ولديه برنامج سياسي واضح وهو يعرف أن النجاح الكبير الذي تحقق في الأعوام الأخيرة، أي منذ انتخاب laquo;أبو مازنraquo; رئيساً للسلطة الوطنية وتشكيل حكومة برئاسة الدكتور سلام فيّاض، تختصره الأوضاع السائدة في الضفة الغربية. هناك أمن في الضفة الغربية، وهناك حركة استثمار، وهناك مشاريع بناء، وهناك ما هو أهم من ذلك كله. لم تعد الأرض الفلسطينية أرضاً طاردة لأهلها كما يشتهي الاحتلال الإسرائيلي. تلك هي المقاومة الحقيقية. تلك هي المقاومة التي تبني ولا تهدم والتي تشكل شوكة في حلق إسرائيل والاحتلال، وكل الكلام الفارغ عن laquo;مواقع أثريةraquo; للاحتلال والمحتلين في الخليل وبيت لحم.