ياسر سعد

تحترف السياسة الإيرانية ازدواجية في الخطاب وإعطاء إشارات متناقضة في أوقات متقاربة، بحيث تجعل المراقبين والمتابعين في حيرة من أمرهم. ولعل أكثر الصور وضوحا في الدلالة على تلك المواقف المتأرجحة والمتغيرة quot;ظاهرياquot; مسألة ملف إيران النووي. ومع الاعتراف بالفهلوة والدهاء الإيراني إلا أن بعض المواقف والتصريحات لا تحتاج إلى كثير عناء حتى يدرك المتابع المقاصد والأهداف التي تسعى إليها طهران، وأساليبها في توظيف الشعارات الرنانة والعواطف الشعبية بل وحتى الأيديولوجية في الوصول إلى غايات سياسية وتسويات وصفقات مع الشيطان الأكبر أو حليفه الأوثق في المنطقة.
وبغض النظر عن تصريحات نجاد في كابل وانتقاده لدور الولايات المتحدة، فإن كل ذلك لا يلغي حقيقة أن الرئيس الإيراني نزل في ضيافة كرازي رجل أميركا والذي تتكفل بحراسته قوات أميركية، وبالتالي فإن نجاد كان يتمتع بالحماية الأميركية وهو يطلق لسانه في انتقادها والسخرية منها!! بل إن نجاد نفسه أطلق ومن خلال تصريحاته دعوة للغرب والولايات المتحدة لمواجهة مشتركة quot;للإرهاب السنيquot;، فلقد قال في مؤتمره الصحافي والذي جمعه وكرازي إن القوات الأميركية والأوروبية لن تتمكن من هزيمة الإرهاب عن طرق شن حرب في أفغانستان، فالإرهاب يمكن محاربته عبر التعاون الاستخباراتي بين الدول وليس عبر حشد الجيوش. نجاد يتفق مع الغرب بتوصيف وتصنيف المقاومة الأفغانية للاحتلال الغربي إرهابا، وهو يعلن عن استعداد طهران للتعاون في مجال المخابرات مع واشنطن وحلفائها. هذه الأريحية الإيرانية في الاستعداد للتعاون الاستخباراتي المشترك مع الغرب تعطي شيئا من المصداقية لتحليلات ذهب أصحابها إلى أن ثمة صفقة إيرانية أميركية تمت من خلالها مقايضة عبدالملك ريغي زعيم حركة جند الله السنية بالقائد القسامي محمود المبحوح.
من ناحية ثانية أشارت بعض التحليلات على أن أحد الدوافع الرئيسية لزيارة نجاد إلى كابل هو القلق الإيراني من الرغبة الغربية في التصالح مع حركة طالبان. هذا القلق عبرت عنه إيران وفي أكثر من مناسبة، فهذا وزير خارجيتها منوشهر متكي يحذر في مؤتمر صحافي خريف 2008 من عواقب إجراء محادثات مع طالبان، مشيراً إلى أن مصيرها سيكون الفشل لو تمت، ونصح متكي الدول الغربية حينها بالتفكير في عواقب إجراء محادثات مع الحركة، موضحا أنها ستكون خطأ فادحا. وقال متكي: quot;اليوم أصبح العالم بأكمله يعرف بالفشل الاستراتيجي للقوات الأجنبية في أفغانستان، ونحن ننصحهم بعدم القيام بمحاولة فاشلة أخرىquot;، وأضاف quot;نحن ننصحهم بالتفكير في عواقب المحادثات مع طالبان، التي تُعقد في المنطقة وفي أوروبا، وتجنّب أن يلدغوا من نفس الجحر مرتينquot;. كما حذر متكي الغرب من التفكير في إمكانية حصر التطرف في أفغانستان وباكستان وآسيا الوسطى، فالتطرف سيصل في يوم من الأيام إلى أوروبا والغرب.
ومع الحديث عن إمكانية انسحاب لقوات أميركية من أفغانستان بعد أن هدها الإعياء وأنهكها التعب، ومع التحذير الإيراني من المصالحة مع طالبان، تبدو طهران مهيأة لتقديم العون للغرب في الخروج من المستنقع الأفغاني بما يتفق مع مصالحها ورغبتها في أن تكون قوة إقليمية مهيمنة في المنطقة. فالنموذج العراقي في استنزاف المقاومة في حرب طائفية يبدو جذابا لواشنطن ومفيدا لطهران. فالنفوذ الإيراني يتصاعد في أفغانستان ومنذ سنوات الاحتلال، لاسيَّما في المناطق الغربية، حيث تحتفظ طهران بعلاقات اقتصادية وثقافية قوية، فهناك حسينيات ومراكز ثقافية إيرانية في هرات ومزار شريف، بل وحتى في العاصمة كابل. بالإضافة إلى أن نائب الرئيس الأفغاني محمد كريم خليلي هو شيعي، ومدافع رئيسي عن حقوق أقليته من الهزارة في الشارع الأفغاني. تقوية وتسليح الهزارة، بل ودعمها بالمقاتلين من الحرس الثوري، ربما يقدم خدمة كبيرة للاحتلال الأميركي من خلال استهلاك المقاومة الأفغانية في الانشغال في صراع طائفي، إثني ومذهبي.
وبعيدا عن الاجتهادات والتحليلات والتي تتحدث عن صفقات محتملة أو مواجهات محتومة بين واشنطن وطهران، تبدو الدول العربية الخاسر الأكبر، وفي كلتا الحالتين، فهي عرضة للابتزاز إما بحجة الحماية أو تحت مسمى استهداف المصالح الأميركية في المنطقة. هناك حاجة ماسة للخروج من حالة الغيبوبة السياسية للعواصم العربية الكبرى، والتعامل مع حقائق الصراع من خلال إصلاح الأوضاع والجبهات الداخلية، ونزع فتيل الصراع الداخلي المحتدم تحت مسميات مستوردة ومفروضة من الخارج، واستخدام الإمكانات والموارد المتاحة في التعامل مع الأطراف الخارجية بشيء من الندية، والتعاون مع القوى الدولية الصاعدة في إحداث حالة من التوازن، والتعامل مع الأحداث بشيء من المبادرة والفعل والخروج من دائرة ردود الفعل والاستناد إلى الأوهام والوعود الزائفة.