يوسف مكي

قريباً سيلتئم شمل القادة العرب، ويعقدون مؤتمرهم في مدينة سرت الليبية . وكما هي عادة معظم مؤتمرات القمة العربية، تنعقد المؤتمرات وسط جملة من التحديات والمخاطر، ويكون بيانها وقراراتها متأثرة إلى حد كبير بتجاذبات اللحظة ومتطلباتها . وتكون النتائج، وذلك أمر بديهي، استجابة لمتطلبات اللحظة التاريخية .

لن يكون هذا المؤتمر استثناء، من حيث الظروف الصعبة التي يعقد فيها . فالمؤتمرون سيجدون أمامهم سجلاً كبيراً وحافلاً من المشاكل المستفحلة والتحديات المصيرية، التي تهدد أمن الأمة ووجودها .

فمفاوضات التسوية التي أمل بها القادة العرب كثيراً، تصطدم بصخرة تعنت العدو الصهيوني، التي تواصل آلته الحربية، تمزيق أوصال القطاع والضفة . وقد أثبتت تجارب الأربعة عقود المنصرمة، عدم التزامه بالعهود والمواثيق، وأنه يستمر دائماً، بقوة وثبات نحو استكمال مشروعه العدواني التوسعي، دون خشية من أحد، ودون رادع من قانون، يدعمه في ذلك تحالفه الاستراتيجي مع الإدارات الأمريكية المتعاقبة .

لقد ثبت للقاصي والداني، أن العدو ليس مستعداً لقبول التنازلات التي قدمها العرب، وقيادة السلطة الفلسطينية، من أجل التوصل إلى سلام دائم في المنطقة، وهي تنازلات لم تضمن الحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية . فمشروعه كان ولا يزال، مشروع حرب، وذلك ما يفرض على القادة العرب، مراجعة شاملة لكل المبادرات التي طرحت منذ نهاية حرب أكتوبر عام ،1973 وحتى يومنا هذا، وتصليب الموقف العربي، وتبني قرارات تاريخية من شأنها ردع المعتدي، وإجباره على التوقف عن مواصلة عملية الاستيطان، ونهب الأراضي، وطرد السكان الأصليين، من ديارهم . ويكون من شأنها أيضاً منع استمرار العدو في تهويد مدينة القدس، ومواصلة الحفر تحت الحرم الإبراهيمي، ورفع الحصار عن شعبنا المظلوم في قطاع غزة .

في هذا السياق، ينبغي رصد المتغيرات الدولية، والتطورات الإقليمية، عند صياغة استراتيجية التحرك من قبل القادة العرب، بحيث تأتي هذه الاستراتيجية متوازنة ومنسجمة مع جملة المعطيات السياسية . إن القدرة على التقاط مصادر القوة العربية، ووعي مكامن الضعف لدينا ولدى الآخرين، هي عملية غاية في الأهمية، لكي تأتي قرارات القمة وتوصياتها، صائبة، دون تنازل أو تفريط في حق من حقوق الأمة، وبشكل خاص ما يتعلق بحقنا في فلسطين، وفي المقدمة من تلك الحقوق، حق العودة، وعروبة القدس الشريف .

الواقع الدولي، يشهد تغيرات متسارعة، لعل أهمها النمو الاقتصادي الصيني، بقفزات هائلة، وتخلخل قدرات الإدارة الأمريكية الحالية، بسبب الأزمة الاقتصادية الحادة، وفشل المشروع الأمريكي في العراق وأفغانستان، وتراجع دوره كقطب أوحد في صياغة القرار الأممي .

إن العالم يشهد تغيرات متسارعة، باتجاه إنهاء الحقبة التي أعقبت نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفييتي . هناك ملامح تغيرات في السياسة الدولية، عبّر عنها صامويل هنتينغتون، صاحب فكرة صراع الحضارات، بوجود عالم متعدد الأقطاب، بآحادية قطبية . ورغم أن التعريف غير دقيق، ويشكّل انتقالاً مرحلياً من حالة التفرد إلى القبول بتعدد صناع القرار الأممي، لكنه يعكس اعترافاً صريحاً بتراجع دور أمريكا في السياسة الدولية من جهة، وبداية الاعتراف بوجود فاعلين آخرين على المسرح السياسي الدولي .

كانت بداية هذا التغير، قد برزت بوضوح أثناء مناقشات مجلس الأمن الدولي، قبيل احتلال العراق، حيث تمردت ألمانيا وفرنسا وروسيا على محاولات إدارة الرئيس جورج بوش لإصدار قرار من مجلس الأمن يشرعن العدوان على العراق . وقد تكرر الحديث بعد ذلك، على لسان وزير الدفاع الأمريكي، عن وجود أوروبا قديمة وأخرى جديدة، في إشارة واضحة للمعارضين لسياسة أمريكا، باعتبارهم يمثلون الوجه القديم لأوروبا، أما المتحالفين مع الإدارة الأمريكية، فقد اعتبروا ممثلين للوجه الأوروبي الحديث .

ولعل وعي الكيان الصهيوني بتراجع ثقل الدور الأمريكي على الساحة الدولية، هو الذي دفع بحكومة نتنياهو إلى توجيه صفعة قوية لتحرك السلام الأمريكي، حين أعلنت الحكومة ldquo;الإسرائيليةrdquo;، بناء ألف وأربعمائة مستوطنة، في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ،1967 أثناء زيارة نائب الرئيس الأمريكي، جوزيف بايدن للكيان الغاصب . ويعكسه أيضاً سرعة تحرك الكيان الصهيوني نحو تقوية علاقاته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وتبادل الخبرات التكنولوجية مع الصين والهند .

إن بروز هذه الحقائق، التي تسير باتجاه تحقيق عالم أكثر توازنا وتعددية، تفرض على القادة العرب أن لا يكونوا في عجلة من أمرهم، وأن تكون هذه الحقائق ماثلة أمامهم، وهم يجتمعون في مدينة سرت، ليحددوا اتجاه بوصلة السياسة العربية في المرحلة القادمة .

لقد صدرت المبادرة العربية الأولى، في ظروف مغايرة تماماً، لما نعيشه في هذه الحقبة . فقد جرى تبني تلك المبادرة إثر انسحاب المقاومة الفلسطينية من لبنان، في مرحلة شهدت انهيارات واسعة في جدار التضامن العربي، وكانت آنذاك تمثل الحد الأدنى من المطالب الفلسطينية . ومنذ ذلك الحين، سالت مياه كثيرة، جعلت تضامن القادة العرب، يسير باتجاه لا يخدم مصلحة الأمة .

وفي قلب انهيار النظام العربي الرسمي، وأثناء التحضير الأمريكي لاحتلال العراق، صدرت المبادرة العربية الثانية، وكانت أثناءها تمثل حداً أدنى آخر، اتفق القادة العرب جميعاً، على أنها آخر ما يمكن تقديمه من أجل التوصل إلى حل مقبول للقضية الفلسطينية، آخذين بعين الاعتبار جملة الظروف التي كانت المنطقة تمر بها آنذاك . الآن ليس مقبولاً، أمام الحقائق الجديدة على الأرض، وأمام التعنت والغطرسة الصهيونية، أن نقبل بالابتزاز أياً يكن مصدره، فنحن في وضع أقوى وأفضل مما كنا عليه أثناء طرح وتبني المبادرة العربية الثانية .

إن المواطن العربي، يتطلع من القادة العرب، في أقل تقدير، التمسك بحق الفلسطينيين بالشتات في العودة إلى ديارهم، وعدم التفريط بحقوقنا في القدس الشريف، والتأكيد على القرارات الدولية، وبخاصة القرارات ذات العلاقة المباشرة، بانسحاب الكيان الصهيوني من جميع الأراضي التي احتلها في عدوان يونيو/ حزيران عام ،1967 دون التنازل عن شبر واحد من تلك الأراضي، وأن يعلن القادة العرب أن الأمة لن تقبل، في سعيها الحثيث من أجل السلام، التخلي عن الأرض مقابل السلام . إن التطور التاريخي يسير في صالح الصمود العربي، حيث يتراجع التأييد الدولي، بشكل ملحوظ، لنهج ldquo;إسرائيلrdquo; التوسعي، وتحظى القضية الفلسطينية، بتأييد المجتمع الدولي، في ظل مناخ متفائل تتراجع فيه السياسات المستندة على هيمنة وغطرسة القوة .

ومن الأهمية أيضاً، أن يؤكد القادة العرب، على عروبة العراق، ووحدة أراضيه، ورفض التدخلات الإقليمية والدولية في شؤونه الداخلية، وتركه لأهله، ليقرروا مصائرهم وأقدارهم دون تدخل الأجنبي، بعيداً عن سياسات الإقصاء والتهميش، وأيضاً بعيداً عن المحاصصات والقسمة الطائفية والإثنية . ويتطلع المواطن العربي في هذا السياق، إلى أن يرفض القادة العرب، ما تمخض عن العدوان على هذا البلد العريق من قوانين وتشريعات تحد من استقلاله وسيادته، وأن يغلب مفهوم الوحدة الوطنية، على غيره من شعارات الاجتثاث وقانون العدالة، لكي يعود للعراق، وجهه العربي، ويساهم مع أشقائه العرب في نهضة الأمة وتطورها ونمائها .

وتبقى هناك قضايا التكامل الاقتصادي والثقافي، ومواجهة حملات التفتيت التي تتعرض لها الأطراف في بلدان عربية عزيزة . وقضايا أخرى ذات علاقة، لا يتسع حديثنا هنا لمناقشتها، وجميعها أمان ومطالب عادلة، تمثل صبوات لغالبية أبناء الأمة، نأمل بصدق، أن تجد طريقها إلى قلب القادة العرب، أثناء اجتماعهم القادم في بلد عمر المختار، حفاظاً على الذاكرة، وصونا للوجود وللمستقبل العربي .