نبيل عمرو

لم يبق من نظام منظمة التحرير الفلسطينية، إلا بعض هياكله وشرعيته. كما لم يبق من عهد الزعماء الرموز، في تاريخ الشعب الفلسطيني، إلا الذكرى، التي ستبقى مطبوعة في الذاكرة الوطنية، كمحطات ذات تأثير قوي على مسارات الكفاح الفلسطيني، منذ الثلث الأول للقرن الماضي وحتى رحيل الزعيم الأبرز ياسر عرفات.

وسواء قضى عرفات، نتيجة مرض أو إنهاك أو اغتيال.. فلقد كان رحيله.. بمثابة إسدال الستار على الفصل الأخير من فصول الزعامة الفعلية والرمزية حين تجتمع في شخص واحد، فلقد كان عرفات هكذا، رمزا لما يسعى الفلسطينيون إليه، وقائدا تفصيليا مركزيا يمسك بمقاليد السلطة والقرار، في الواقع اليومي للشعب الفلسطيني وحركته الوطنية.

حين قضى عرفات، كان قد قضى قبله جميع المرشحين التقليديين لخلافته، وفي مقدمتهم الكبيران، صلاح خلف وخليل الوزير، ومع أن الاثنين لم يفكرا يوما بالخلافة، ولم تساورهما أوهام القدرة على ملء فراغه، فإنهما كأسماء كانا من القوة، والتأثير المادي والمعنوي، ما يؤهلهما للرهان، ليس كصورة طبق الأصل عن عرفات، وإنما كامتداد لنوع من الزعامة، يكون اسم الفرد وإيقاعاته ذات تأثير ملحوظ في الحضور والفاعلية.

لقد رحل عرفات.. حين كان الرهان الأخير بقيام دولة طالما حلم بها وأعد لها آخذا في الانحسار والتراجع، ولربما يكون قد خطر ببال عرفات ظهور معوقات كبرى في وجه مشروعه، إلا أنه أبدا لم يخطر له ببال، أن يتحول من قائد فرش له البساط الأحمر في كل العواصم الكبرى، بما في ذلك بكين وموسكو وواشنطن، إلى سجين في قلب رام الله، وعلى بعد أمتار من عاصمة حلمه الأول والأخير القدس..

ومنذ رحيله وحتى الآن، وبصرف النظر عن ما قيل عنه من قبل محبيه وكارهيه، لا يزال ساكنا في المخيلة، كظاهرة مستمرة في الموت كما الحياة، ولا يزال الموضوع المفضل للحوارات الداخلية، أو غالبا ما يجري التساؤل اليومي، ماذا كان يحدث لو أن عرفات على قيد الحياة؟ كيف كان سيتصرف في أمر الانقسام والاستعصاء التفاوضي، والأزمات الداخلية، ولعل ما يزيد حضوره على هذا النحو إلحاحا وقوع جميع الانتكاسات الدراماتيكية في فتح والساحة عموما بعد أن فارق الحياة.. فلقد خسرت فتح الانتخابات، وفصل الانقلاب غزة عن الضفة، وتهمشت منظمة التحرير التي كانت تتغذى على كوفيته، وإلحاحه على أن تظل في الواجهة، وكل هذا يكفي كعناويين كوارث، حدثت بعد رحيله.

لم يحاول أحد ملء الفراغ الناجم عن غيابه، فلقد كان الرجل قد أسس وبنى نظاما، لا يصلح إلا له، ولا يملك أحد تغييره أو قيادته، كان التزاوج بين النفوذ المادي والمعنوي يجتمع في ظاهرته السلطوية، وكما في أوج حالة القوة وقاع حالة الضعف، كانت هنالك بديهية سائدة، لا بديل عن الرجل.

بعد الرحيل - لم يكن عرفات مجرد قائد فلسطيني لثورة أو كيان أو حزب، فلقد كان جزءا من معادلة، ما إن بدأت عملية السلام حتى أضحت المعادلة فلسطينية إقليمية كونية، وفي حالة كهذه، فإن العالم كله أضحى معنيا بإيجاد صيغة، إن لم تنفذ المشروع الدولي الشرق أوسطي، فعلى الأقل لا تفضي إلى اندثاره.

لقد سلم العالم باستحالة نجاح مشروع سياسي أمني اسمه مشروع السلام، بوجود شخص يشبه عرفات، أي زعيم فرد يملك قدرة تغيير الاتجاهات بضغطة زر، والإقدام على الشيء ونقيضه بذات القدرة على الحركة والتبرير، إذا.. لا بد من ولادة نظام فلسطيني جديد، يستجيب للرهانات الإقليمية والدولية على مشروع السلام، وعلى كل ما ينبثق عنه من سيناريوهات محلية وإقليمية ودولية.

لقد ضمن العالم، الذي تقود حركته الشرق أوسطية الولايات المتحدة الأميركية، أن لا زعيم فردا في حياة الشعب الفلسطيني بعد عرفات.

واقتنع كذلك بأن بديل الزعيم الفرد، ليس فصيلا أو منظمة أو ميليشيا.. وإنما مؤسسة حديثة تملك قدرات عصرية على العمل في المجال الداخلي، مع قدرات حقيقية على فهم حركة العالم، والأسقف التي يسمح بالتحرك والاجتهاد تحتها دون خروج دراماتيكي عنها، ربما يحرق الأخضر واليابس، بقرار خاطئ، أو يعيد الساعة إلى نقطة البدايات الموغلة في القدم.

ولننظر إلى ما يجري الآن وإلى أين تتجه رهانات العالم في الشأن الفلسطيني العاجل والشأن الفلسطيني الإسرائيلي الآجل.

في الشأن الفلسطيني، هنالك شيء حديث قيد الإنشاء، تحت عنوان بناء الدولة، إداريا وأمنيا ومؤسساتيا، هو قيد الإنشاء ليس مجرد تجربة جديدة، تضع الحصان أمام العربة، وإنما هو كذلك بناء نظام جديد، لا يرتبط بقراراته وخياراته بالفصائل والميليشيات والزعماء. ولا تقوم بنيته الإدارية على أعضاء تنظيم واحد، أو بمواصفات سياسية كفاحية مثل التراث النضالي، والأقدمية وسنوات السجن، وإنما يعتمد على الكفاءات الوطنية، من كل الفصائل والمشارب والأطياف.

إذ لا لزوم للاعتبارات المعنوية التي تسيدت الهيكل على حساب الاعتبارات المهنية، وبالتالي، فإن من يلزم لقيادة اقتصاد ينبغي أن يكون خبيرا، إذ في حالتنا لا فائدة ترتجى من مواقع يحتلها الفرد لأسباب سياسية أو فصائلية أو رمزية، غير أن استيلاد نظام سياسي جديد، من أحشاء النظام القديم، ستظل تحرض غريزيا على النظام الجديد، دون الانتباه إلى أن فرصة الأجيال الجديدة في التحقق عبر هذا النظام تبدو أكبر وأقوى، فمن غير هذا الجيل، المؤهل يستطيع مجاراة خصائص هذا العصر والتعامل معها، والتقدم في مضمارها. إن نظام منظمة التحرير، يلفظ أنفاسه الأخيرة، لمصلحة نظام أفضل، وحين تجري المطالبة بتقوية المنظمة وتطوير أدائها، فليس من أجل أن يفرض وارثوا الزعامة نزواتهم على النويات الواعدة للنظام الجديد، وإنما كي تنتقل أمور القيادة الفعلية بسلاسة ومنطقية بعيدا عن المطبات والمغامرات. غير أن النظام الجديد بحاجة إلى إظهار الخط الفاصل بين المهام - ذلك أن منظمة التحرير لا تزال صاحبة الشرعية في أمر التفاوض والقرار السياسي - إلا أنها لا تملك المقومات الكافية لقيادة عملية تنموية شاملة.. ما يحتم العمل على تحويل بقايا القديم مع طلائع الجديد، إلى ظاهرة إيجابية بناءة، وليس إلى مجرد تنافر قد نفقد فيه الاثنين. إن النظام الجديد قيد الإنشاء، لا يزال بحاجة إلى مزيد من التبني، الشعبي والعربي والدولي.. فلربما يكون هذا النظام هو المخرج الوحيد من استعصاءات كثيرة.

* وزير إعلام سابق وسفير فلسطين السابق لدى مصر