علي محسن حميد
في3 تشرين الاول (اكتوبر) من عام 1997 نشرت صحيفة 'لوس انجيلوس تايمز' أن حكومة نتنياهو أقامت في أول سنوات حكمها 4700 وحدة سكنية مقابل 8000 وحدة أقامتها حكومة العمل السابقة على مدى ثلاث سنوات ونصف السنة.
نتنياهو واحد من أبرز رموز الاستيطان في تاريخ الاحتلال الإسرائيلي وكغيره من قادة إسرائيل يحرص على أن تكون له بصمة استيطانية واضحة بغض النظر عن موقف العرب والغرب والشرعية الدولية. في اجتماع الإيباك السنوي في 22 آذار (مارس) في واشنطن قال نتنياهو ما لم يقله أي إسرائيلي من قبل' إن القدس ليست مستوطنة وأنها عاصمة إسرائيل وأن البناء فيها هو مثل البناء في تل أبيب'.
نتنياهو قال للإدارة الأمريكية وللعرب ولغير العرب هذا هو السلام الإسرائيلي ومن لا يقبل به فليس مر حبا به لصنع السلام معنا. هذا هو منطق القوة والغطرسة اللذان يفرضان على الضعفاء فقط ونتنياهو قال ما قال من مركز قوة. بعد ذلك هل يستمر العرب في السير وراء وهم إسمه السلام مع دولة لا تريده وتمقته وتستخدمه للمزيد من التوسع وللتطبيع المجاني ولوأد مبدأه الرئيسي وهو مبادلة الأرض بالسلام وفق صيغة مدريد والتطمينات الأمريكية في 18/10/1991 للرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات التي ما كان يمكن له بدونها أن يشارك في مؤتمر مدريد عام 1991 التي أكدت أمريكا فيها على' عدم الاعتراف بضم إسرائيل للقدس الشرقية أو توسيع حدودها أو اتخاذ إجراءات أحادية الجانب في قضايا الوضع النهائي ومنها قضايا القدس واللاجئين والحدود'. هناك إجماع دولي على أن الدولة الفلسطينية يجب أن تقوم على حدود 1967 وعلى عدم شرعية الاستيطان في القدس وفي الضفة. وفي المقابل هناك تحد إسرائيلي للعالم كله ولكن إسرائيل تظل بمنأى عن العقاب حتى ولو دفعت واشنطن وغير واشنطن ثمن ذلك من دماء أبنائها في العراق وأفغانستان وغيرهما ومن كرامتها أيضا.
رسالة التطمينات التي تسمى برسالة الضمانات ظلت حبرا على ورق حتى عندما تقول واشنطن لإسرائيل بأن السلام مصلحة أمريكية. إن إسرائيل تؤمن إيمانا لا يتزعزع بأن نجاحها في المراوغة وفي الاستيلاء على القدس لن يتحقق إلا بمباركة وبدعم أمريكيين ولذلك نشط اللوبي الإسرائيلي لكي يصدر مجلس الشيوخ قرارا، ليس من حقه إصداره، في 22 آذار (مارس) 1990اعترف فيه بما تقوم به إسرائيل من استيطان وأعمال أحادية الجانب وقرر بأن القدس هي عاصمة إسرائيل وأنها يجب أن تبقى موحدة. قرار يشبه وعد بلفور. وفي ايار (مايو) 1990 كرر جورج بوش الأب راعي عملية مدريد في تشرين الاول/ اكتوبر 1991 وصاحب رسالة التطمينات ما قاله الرئيس ليندون جونسون عامي 1967 و1968 'بأن تكون القدس موحدة وغير مقسمة'.
بوش أكد في نفس الوقت معارضة واشنطن للاستيطان، ولكن الولايات المتحدة حتى الآن لم تمتلك الشجاعة لتعلن رسميا بأن القدس مدينة محتلة وأن على إسرائيل الانسحاب منها ومن كل الأراضي العربية المحتلة.
وعندما يتم ذلك تكون القضية الفلسطينية قد قطعت نصف المسافة في طريق الحل. وبقصد أو بدون قصد لا تود واشنطن أن تبين للمواطن الأمريكي أثر الاستيطان الضار بالمصالح الأمريكية وبحقوق وطنية وتاريخية فلسطينية لا يمكن للفلسطينيين التنازل عنها ومعهم مليار وثلاثمئة مليون عربي ومسلم. ومن البديهي أنه لو حددت واشنطن موقفا رافضا ليهودية إسرائيل التي تضم 20' من سكان عرب أصليين، وذكرت إسرائيل بالتعددية العرقية والثقافية والسياسية فيها فإن الاعتدال كان سيحل محل تطرفها ويفتح الطريق لحل شامل تعتبر السياسة الأمريكية المتخاذلة إحدى معوقاته لأنها أصبحت جزءا من المشكلة وليس من الحل، وقد يكون من الأجدى للفلسطينيين أن يتفاوضوا معها بشأن السلام وليس مع إسرائيل.
القدس العربية مدينة محتلة طبقا للقانون الدولي ولقرارات دولية صوتت عليها الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والمجموعة الدولية كلها. وعدم الاعتراف مجددا بأن القدس محتلة من قبل واشنطن في الظروف الحالية هو مساهمة في اغتيال تاريخ المدينة وثقافتها وقتل لطموح الفلسطينيين وحقوقهم فيها واعتداء على مصالح العرب والمسلمين الروحية والتاريخية التي لم يتجاهلها جون فوستر دالاس وزير الخارجية في الخمسينيات من القرن الماضي ومعها المصالح المسيحية. وللرد على مزاعم نتنياهو الغبية التي يجّهل فيها الذاكرة التاريخية للعالم كله بزعمه بأن للوجود اليهودي في القدس عمرا يبلغ 3000 سنة نقول بأن هذا الوجود كان وجودا طوال تاريخ المدينة وفي العهدين العثماني والبريطاني غيرالبعيدين لأقلية صغيرة وبالتالي لايرتب حقا ينتهك حقوق الأغلبية الفلسطينية. أي دارس للتاريخ في الغرب أو في الشرق يعرف أنه لو كانت القدس مدينة يهودية لما حدثت الحملات الصليبية.
وتل أبيب وواشنطن يعرفان أنه لولا التطهير العرقي في القدس الغربية التي كانت تسمى حتى عام 1948 بالقدس الجديدة، ولم يكن يشكل اليهود سوى 26' من سكانها لما تمكنت من السيطرة عليها. في نيسان (ابريل) من عام 1948 طردت العصابات اليهودية الإرهابية 60000 مقدسيا واستولت على مساكنهم وممتلكاتهم وأحلت محلهم مستوطنين. وحتى ذلك العام لم يكن اليهود يملكون إلا نسبة تتراوح بين 5 و10' منها والباقي كانت ملكية فلسطينية.
في دير ياسين ارتكب الصهاينة مذبحة لا تزال إسرائيل تتجاهلها وكان الفلسطينيون يمتلكون 7780 دونما فيها واليهود 756 دونما فقط و207 دونمات كانت ملكية عامة ومثلا ثانيا من عين كارم التي امتلك الفلسطينيون فيها 13449 دونما مقابل 1362 دونما لليهود و218 ملكية عامة. نتنياهو يعلم علم اليقين كيف تم الاستيلاء على ممتلكات الفلسطينيين في دير ياسين وفي عين كارم وفي القدس الغربية. دير ياسين على مرمى حجر من ياد فاشيم كشاهد على إرهاب الدولة وعصاباتها الإرهابية مثلما هو فاد ياشيم شاهدا على فظائع النازية ضد يهود اوروبا. لقد احتفظت إسرائيل بهذه الأراضي أولا باسم قانون ممتلكات الغائبين ثم صادرتها بعد سنتين من قيامها لكي تحرم المقدسيين من حق العودة إلى مدينتهم وممتلكاتهم؟
أما القدس الشرقية فإن الوجود اليهودي ارتبط فيها بالاحتلال والاستيطان، ولم يكن له أثر قبل عام 1967. ومن الناحية السياسية والإدارية يكذب الوضع الإداري للقدس حتى عام 1948 مزاعم الـ3000 عام فقد كان رئيس بلدية القدس وممثل القدس في البرلمان العثماني منذ عام 1864 مقدسيا فلسطينيا وليس مستوطنا يهوديا وظل الأمر كذلك حتى أثناء الانتداب البريطاني. في عام 1948عبر بن غوريون عن فرحته بالتطهير العرقي في القدس الغربية المحتلة بما يلي: 'لم يعد فيها أغراب، ولكن 100' يهود ومنذ عهد الرومان لم تكن القدس، وكان يقصد الغربية، يهودية 100' كما هي عليه اليوم'.
البعض منا سئم الحديث عن التاريخ ولكن إسرائيل لم تمل من سرد رواية زائفة لتاريخ فلسطين القريب منه والبعيد مما يوجب التشبث بالتاريخ كسند قوي في مرحلة الضعف لأن كل ما تتمناه إسرائيل هو أن ينسى الفلسطيني تاريخه أو يتجاهله. القدس لم تشهد وجودا يهوديا مكثفا في غربها سوى في عهد الانتداب البريطاني وعهد القنصليات الأوروبية التي كانت أداة لتغلغل النفوذ الأوروبي في فلسطين وعنوانا لمرحلة سميت بـ'الحملة الصليبية السلمية'.
نتنياهو يزعم كما زعم شارون وغيره من غلاة المشروع الصهيوني بأن وجودهم في القدس لم ينقطع منذ ثلاثة الآف عام وينسون ما يراه غيرهم بعيون غير صهيونية تؤكدعروبتها كعمارة المدينة وناسها وكنائسها ومساجدها وثقافتها وتقاليدها وتاريخها وتبعيتها السياسية والإدارية لعواصم عديدة كانت آخرها الأستانة قبل الانتداب. هذه المدينة لاصلة لها بالأغراب الحقيقيين عنها من مستوطنين أوروبيين وأمريكيين تكذب وجوههم البيضاء وشعرهم الأشقر التي لم تلفحها شمس المنطقة ولم تعتجن بتربتها وهوائها الزعم بأنهم هناك منذ 3000 عام.
البعد الأحادي للمدينة رفضه مدير عام اليونسكو الأسبق فيدريكو مايورعندما قال بأن القدس مدينة مشعة لكل الأديان وأنها لا تتحمل صيغة فئوية مطلقا. وبرغم أن التاريخ والحقائق جميعها تقف للزعم الإسرائيلي بالمرصاد إلا أن همة إسرائيل لم تفتر في الترويج لمغالطاتها لإقناع الرأي العام الدولي بيهوديتها عملا بمقولة نازية هي أكذب ثم أكذب حتى يصدقك الناس.
القدس في الحقيقة لم تكن مقصد اليهود حتى في مرحلة وضع أسس الدولة بالاستيطان وتواطؤ دولة الانتداب، ففي الثلاثينيات من القرن الماضي كان المستوطنون يفضلون السكن في تل أبيب وليس في القدس لأن المصالح الاقتصادية والتجارية كانت تتركز هناك وقد لفلفت الوكالة اليهودية ما اعتبرته فضيحة بتقديم حوافز مادية لتشجيع اليهود على الإقامة في القدس الغربية، وهذه الحقيقة تكذب الزعم الصهيوني بوجود صلة لم تنفصم بين اليهود والمدينة المقدسة.
'تتحمل الإدارة الأمريكية وكل الدول الغربية مسؤولية رئيسية لما آل إليه وضع القدس ولفشل عملية السلام. وقد بدأ التواطؤ الأمريكي مع المشروع الاستيطاني الإسرائيلي بعيد احتلال القدس العربية عام 1967 عندما أعلنت واشنطن عن رفضها لعودة وضع القدس إلى ما كان عليه قبل احتلالها وبقاء القدس مدينة موحدة غير مقسمة وجعلها في نفس الوقت محور العلمية السلمية الشاملة والعادلة. وبرغم كلام واشنطن المخدر بأن أي استيطان إسرائيلي لايجب أن يؤثر على التسوية النهائية إلا أنها لم تستنكره علنا ولم تقل أنه يتم في أرض محتلة وأن إسرائيل تنتهك اتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، أو تمنع ولو مرة واحدة إسرائيل من سرقة أراض هي مؤتمنة عليها وفقا لهذه الاتفاقية التي تمنع أي دولة احتلال من تغيير الوضع الديمغرافي بأي شكل من الأشكال فيها. الأدهى أن هناك الآن في واشنطن من يرى أن القدس متنازع عليها وليست محتلة. وفي الأمم المتحدة استخدمت واشنطن حق النقض لصالح سياسات إسرائيلية مما أعطاها ضوءا أخضر للاستمرار في الاستيطان. والواقع أن استسلام واشنطن لنظرية الأمن الإسرائيلية هو الأخطر في سياستها إزاء الأراضي المحتلة فهو يعد قبولا ضمنيا بالاستيطان في الأراضي المحتلة كلها بما فيها الجولان السوري الذي ترى فيه إسرائيل عملية أمنية قبل أن يكون توطينا ليهود يمكن تسكينهم في مساحات شاسعة غير مستغلة داخل الخط الأخضر.
الولايات المتحدة لم تمتلك في الـ42 عاما الماضية سياسة مستقلة عن ايديولوجية إسرائيل التوسعية تخدم السلام ومتطلباته وتساعدها على الوقوف مرفوعة الهامة عندما تريد فرض احترام القانون الدولي وعدم تهميش دور الأمم المتحدة في التسوية وخدمة مصالحها الاستراتيجية والاقتصادية والأمنية في المنطقة. لقدساعدت إسرائيل على تهميش دور الأمم المتحدة وبدونها لم يكن لشارون أن يقول وهو مطمئن بأن دور الأمم المتحدة ينبغي التفاوض عليه مسبقا بين إسرائيل والمنظمة الدولية. كل ذلك أضعف الدور الأمريكي الذي بلغ حد ابتلاع اهانات وتقزيم للقامة الأمريكية وللقوة الأعظم. وفي ضوء التوتر في العلاقات الأمريكية الإسرائيلية بعد رفض نتنياهو تجميد الاستيطان يريد كثيرون أن يعرفوا من الذي يصنع سياسة أمريكا هل الإيباك أم البيت الأبيض؟ هل الأولوية لمصالح أمريكا أم لمصالح إسرائيل؟
عبر السيد عبد الرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية عن إحساسه بضياع القدس بقوله 'أنا رجل أحس أن رأسه في المشنقة ولست مطمئنا لما يحدث في القدس'. المشنقة لا تزال معلقة وتحيط برقابنا جميعا ومعركة عروبة القدس لم تنته بعد أكثر من ستة عقود. لقد خذلنا القدس وأكثرنا من القول واكتفينا بالخطابة البليغة وقللنا من الفعل وبخلنا عليها برغم أننا مشهورون بالكرم ولم نعمل ما يكفي لمنع تهويدها ولكم قيل من شعر ونثر في دعم القدس ومناصرة أهلها وكم من شوارع ودكاكين ومساجد سميت باسمها، وبرغم أن الكل يقول بأنه لا يقبل بالتنازل عن شبر واحد من فلسطين 'الوقف الإسلامي' فإن أكثرنا لم يخرج من جيبه مثقال ذرة لدعم صمود المقدسيين ومنع تهويد القدس. القدس ليست قضية رسمية فقط ويجب أن لا نتذكرها إلا عند الخطوب.
في إحدى القمم العربية وإبان الحرب الباردة وفي حقبة كانت بعض الدول العربية ترى في الاتحاد السوفييتي خصما إن لم يكن عدوا وخطرا على أنظمتها وأمنها الوطني وكان تحالفها مع الولايات المتحدة مبررا من أكثر من زاوية، قرر العرب بالإجماع بأن علاقاتهم مع الدول الأخرى ستتحدد وفق مواقف هذه الدول من الصراع العربي الإسرائيلي. لا يوجد وقت أفضل من هذا الذي نحن فيه ليحدد العرب علاقاتهم في شتى المجالات مع الدول الأخرى متقدمة أو نامية على ضوء موقفها من الاستيطان والتهويد والاحتلال الإسرائيلي في فلسطين والجولان وجنوب لبنان. والبداية تكون في مراقبة التصويت في الأمم المتحدة. الدبلوماسية العربية بحاجة عاجلة لأسنان بدلا من الاستجداء والرجاء، والعودة للمقاطعة الاقتصادية وأوراق أخرى كثيرة.
' سفير الجامعة العربية السابق في بريطانيا
التعليقات