يوسف مكي

لا شك أن أهم ما يميز هذه المرحلة من تاريخنا، على الصعيد الكوني هو التقدم العلمي والتكنولوجي المتمثل في الثورة المعلوماتية التي اختزلت المسافات وحولت كوكبنا الأرضي إلى قرية صغيرة توحد معها الزمن وتحقق فيها التواصل الإنساني بشكل غير مسبوق، وأصبحت فيه الفواصل بين الأقاليم تتحدد ليس بالمسافات أو الجغرافيا والتاريخ ولكن بمستوى التقدم والتطور . وقد جاءت الفضائيات التي تبث إرسالها عبر أرجاء هذا الكون، بكل أنواعها لتقلل من الفروقات في الزمن بين مختلف المواقع محررة الفرد، بحسب تعبير الدكتور ساسين عساف، من قيود حجمه وزمانه ومكانه وجنسه .

وبالقدر الذي يتم فيه تسارع اختزال الزمان والمكان بالقدر التي تهتز فيه منظومة التقاليد والقيم والثوابت وأنظمة المعارف في جميع أمم الأرض، إلا في تلك التي تقوم بالدور الريادي في صناعة المستقبل، ونشر مفاهيم العولمة وتعميم قوانينها وضوابطها الجديدة .

ومن البديهي بالنسبة لنا، نحن العرب، أن يكون لهذه المستجدات تأثير مباشر على الدور الذي يجب أن يضطلع به المثقف العربي في كيفية التعامل مع هذه المتغيرات . وفي هذا الصدد، لا بد من الاعتراف، بأننا لا زلنا نعيش في سلوكياتنا وممارساتنا حالة انفصام شديدة وخطيرة بين ماضينا وحاضرنا . فنحن من جهة نتصرف وكأن ما يجري من حولنا في هذا العالم لا يعنينا أبدا، بل وكأنه يأخذ مكانه في كوكب آخر . . كوكب بعيد عنا بآلاف السنين . إن زماننا، حين نضعه في ميزان سلوكنا وردود أفعالنا، منفصل تماماً عن الزمن الكوني الذي نعيش فيه، بكل ما يحمله هذا التعبير من مضامين ثقافية وحضارية . إنه زمن غابر يرفض التعامل مع الحاضر ويعيش غربة تاريخية سحيقة، رافضاً كل ما هو جذري وحديث تحت يافطة الدفاع عن التقاليد والأصالة والثوابت، مكرساً بذلك هيمنة سلطة الإكراه والاستبداد واستمرارية نسق المتخلف .

بعضنا الآخر، حداثي جداً للدرجة الكاريكاتورية، يعيش حالة افتتان مطلق بالحاضر، ويشطح في الأفق البعيد، بينما لا يزال هو قابعاً في أسر تقاليده البالية، محاولاً القفز فوق الحقائق الموضوعية والجغرافية، جاهلاً أو متناسياً عن عمد أن الجديد في الثورات التكنولوجية والمعلوماتية والعلمية قد تحقق بفعل قانون التراكم، وأن حالة التحول لم تكن معزولة عن حراك وصراع طويل مع الكون والعلوم والطبيعة، وأن غياب قوانين التحول من وعينا، تجعلنا نقتحم الزمن الجديد بشكل مسطح، ومن دون الأدوات والمستلزمات الضرورية لذلك، وبالتالي دون قدرة على التفاعل والحركة . ويتناسى دعاة الحداثة الكاريكاتورية أن من شأن ذلك أن يجعل منا إمعات وتابعين، لا عناصر مبدعة خلاقة . وبالتالي تكون النتيجة غربة جديدة من نوع آخر . . نوع ربما يكون أقسى وأمر مما نحن فيه الآن .

لا بد إذن من ضبط إيقاع حركة الولوج في الزمن الكوني الجديد، باتجاهين متوازيين . الأول، تحقيق التراكم الثقافي والعلمي والمعلوماتي المطلوب . والثاني، التماهي الواعي مع الحراك الإيجابي الدائر من حولنا في هذا الكون كي نكون بالفعل ترساً فاعلاً في عملية التطور الإنساني التي تحث السير من حولنا بسرعة تفوق سرعة الصوت . لكن كيف يتحقق ذلك؟

يقتضي الجواب على هذا السؤال، تحديد الأهداف والاستراتيجيات والأدوات التي ينبغي الأخذ بها، لكي نكون جزءاً جديراً بالاعتبار في هذه المحطة من تاريخ البشرية . وهنا ينبغي التركيز على أهمية الحوار والتفاعل مع مختلف التيارات الإنسانية، بكل أطيافها وتوجهاتها . لا بد من التثاقف مع الحضارات الأخرى، ولن يتحقق ذلك إلا بالمسارعة إلى ملء الفراغ العربي المعلوماتي . . وهو فراغ يبدو كبيراً وخطيراً للغاية . إن ذلك يسهم في خلق التواصل، وتجسير المسافة المرعبة الفاصلة بين زمننا الحقيقي الذي نعيش فيه وبين الزمن الكوني الاعتباري لهذا العصر .

وهذا يعني أن تكون لأجهزة الاتصال المتوفرة لدينا، من فضائيات وانترنيت وصحافة، أدوار أخرى غير تلك التي تضطلع بها الآن . إن أدوارها يجب أن لا تكون المشاركة في ترسيخ الماضوية البليدة وإعادة استنساخها في أدوات وتقنيات جديدة، ولكن بتجاوزها والخروج عليها، وصناعة بديل عنها متجانس مع متطلبات ومستلزمات وضرورات عصرنا الحاضر . إننا في الحقيقة بحاجة إلى توحيد زمننا العربي وجعله زمناً واحداً، محرراً من رتابة ماضيه ومعلوماته وأن يكون متصلاً في قدرته وفعله بهذا الزمن الكوني .

إذن فالتماهي مع الثورة المعلوماتية والتجانس مع الخطاب الكوني المعاصر لا يكونا فقط بامتلاك مؤسسات الإعلام من فضائيات وصحف ومجلات ومواقع الكترونية وعنكبوتية، ولكن بجعل تلك المؤسسات في خدمة مشروع النهضة الجديد . إن هناك خطراً جدياً ماحقاً يتمثل في سيادة الصوت الواحد في تلك المؤسسات وتغييب مختلف الدعوات والنداءات الأخرى التي لا تتجانس مع الأوضاع القديمة السائدة . وهذا الصوت الواحد، إن كتب له أن يستمر، فسوف يكون ذلك تجسيداً عملياً لسيادة خطاب قديم ومستعاد، يتسم بالبوليسية والتسلط والقهر والإقصاء، وهو بالتأكيد خطاب مناوئ للخطاب الثقافي التنويري المعاصر المتسم بالتسامح والإيمان بالعلم وحرية الفكر . إن خطاب المستقبل يجب أن يكون مفتوحاً ومنفتحاً على كل الأصوات والألوان، وأن يمثل الالتزام بمبدأ التعددية بكل تجلياتها، مع احترام للرأي والرأي الآخر . وهو خطاب، يجب أن يرفض بحزم دعاوى الخصوصية الثقافية والدينية، تلك الدعاوى التي استخدمت، على مر التاريخ العربي، ولحقب طويلة جداً، كذريعة لقمع الحريات ومصادرة الرأي الآخر . إن الخطاب الجديد المطلوب من المثقف العربي في هذه المرحلة هو خطاب يتجاوز بوعيه السياسي حدود الجغرافيا والوحدانية التاريخية، وتدابير الأنظمة ولوائحها البيروقراطية .

ولعل من الأهمية التنبه إلى أننا في هذا السجال، نميز بين نوعين من الاندماج بهذا العصر الكوني، بين اندماج إيجابي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الانخراط في الحداثة والمعاصرة والإبداع، والمساهمة في مجالات الثقافة والفنون، وإصلاح الأنظمة السياسية والاجتماعية والاقتصادية باتجاه تحقيق مزيد من الاحترام لحقوق الإنسان، وبين اندماج سلبي يرفع في وجه الثقافة العربية تحدي الرضوخ للتبعية والتهميش وإلغاء الذات والتنازل عن الحقوق والهوية أمام قوى الهيمنة العالمية الجديدة .

الثقافة العربية، التي ننشدها، مدعوة للدخول بالاختراق والتفاعل والاستجابة إلى الزمن الكوني، لأن المبادئ المعلنة في هذا الزمن تستجيب للحاجات التاريخية لشعوب العالم الثالث المقهورة، وبضمنها شعبنا العربي . فنحن من دون مواربة، من أكثر الشعوب مصلحة في تحقيق التواصل والاندماج مع هذا الزمن الكوني، لأن ذلك سيكون عاملاً مساعداً في التعجيل بقطع المسافات الطويلة التي ينبغي علينا تجاوزها الآن . إنها جدلية الضرورة التاريخية التي فرضت علينا من قبل الالتزام بمفاهيم العدل الاجتماعي وتحقيق التكافؤ والالتزام بمشروع التضامن والوحدة العربية . . هي الجدلية التاريخية ذاتها، تفرض علينا الآن التنازل عن المظاهر الشوفينية في فكرنا القومي، والتي رسخت فيما مضى فكرة الانعزال عن أو العداء للآخر، إلى الدخول في رحاب أوسع . . رحاب عالمي إنساني، دون أن يعني ذلك تنازلاً أو ارتماء أعمى في أعتاب النظام العالمي الجديد، أو تحت أقدام جياد سيده القابع في البيت الأبيض، التي تفننت في هزيمتنا وسحق ارادتنا .

إن ما نأمله باختصار، هو التسليم بأهمية وجود نظام عربي تحديثي عصري المنازع والتوجهات، قادر على مواجهة الهيمنة الغربية المتقدمة في العلم والتكنولوجيا والقوة العسكرية . وهو نظام ينبغي أن يجعلنا داخل النظام الكوني الجديد، بعيداً عن حواجز الخوف والشك والارتياب والشعور بالدونية إزاء تفوق الآخر ونهجه العدواني .

ولسوف يكون من شأن هذا التحول في ثقافة النظرة إلى التاريخ والآخر والذات، أن يضيف الكثير من عناصر القوة إلى صراعنا مع العدو الصهيوني من أجل التحرير واستعادة الأرض والكرامة، وإنهاء كافة أشكال الاحتلال والهيمنة عن الأرض العربية، وحماية الوجود . ولن يتحقق ذلك إلا بإضافة صراع آخر إيجابي مع الذات من أجل الإصلاح والتنمية والحداثة، تستطيع من خلاله الأمة العربية النهوض من كبوتها من جديد، مستندة في ذلك إلى عمق حضاري وثقافي أصيل متعدد ومتنوع، يتيح لنا أن نستعيد دورنا الحضاري المفقود، وأن نساهم بفعالية في ركب التطور الإنساني الصاعد .

تلك مقدمة لا بد منها في الحديث عن الدور الذي يجب أن يضطلع به المثقف العربي أمام التحديات الحاضرة . وقد قال العلي الكريم سبحانه وتعالي: ldquo;إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهمrdquo; صدق الله العظيم .