عبدالله السعدون

خصص مسيحيو لبنان مؤخراً يوما تضامنياً طويلاً مع مسيحيي العراق، كان مسرحه كنيسة سيدة لبنان في حريصا laquo;البازيليكraquo;، وذلك بدعوة من اللجنة الأسقفية لوسائل الإعلام في لبنان، برئاسة المطران بشارة الراعي.. وهو مطران مثقف وناشط في الحوارات مع فعاليات دينية وفكرية وثقافية وسياسية إسلامية في بلده لبنان وغير لبنان.

وفي هذه المناسبة التي أقيمت تحت شعار laquo;صليب العراق ينزف دما فمتى القيامة؟raquo; أقيم قداسان توّجا برقيم صادر عن البطريرك الماروني مار نصرالله بطرس صفير، بطريرك إنطاكية وسائر المشرق، يناشد الالتفات والتضامن العربي والعالمي مع مسيحيي العراق المهددين بوجودهم وأماكن عبادتهم وتراثهم الديني العريق. كما يطالب السلطات العراقية laquo;بحماية مواطنيها من المسيحيين وبسط جناح الأمن والسلام على المواطنين جميعاًraquo;.

أما العظة الدينية الأخرى في المناسبة الأليمة، فقد أقامها بطريرك السريان الكاثوليك يوسف الثالث ركز فيها على ضرورة وضع حد للخطايا المرتكبة بحق مسيحيي العراق، مشيراً إلى أهمية الوجود المسيحي في هذا الشرق الذي لن يكون شرقاً من دون أبنائه المسيحيين.

من جهتهم، كان أيضاً بطاركة وأساقفة الكاثوليك في فلسطين المحتلة على خط الهمّ الواحد، قد أقاموا اجتماعاً دينياً عاماً بالمناسبة في بيت الجيل قرب جبل التطويبات المطل على بحيرة طبريا، ووجهوا رسالة إلى رؤساء الكنائس في العراق، اعربوا فيها عن محزونيتهم القصوى قائلين: laquo;طوبى للمحزونين، للمضطهدين، فإن لهم ملكوت السماوات.. طوبى للساعين إلى السلام، فإنهم أبناء الله يدعون.. أن مؤمنينا يفكرون بكم ويتألمون معكم ويصلون من أجلكم وإن اخوانكم المسيحيين في الارض المقدسة يرفعون الصراخ قائلين: laquo;كفى وهم يتضرعون قائلين: إرحمنا ياربraquo;.

أجل من بعد الله، من يرحم مسيحيي العراق الذين يصلبون كل يوم آلاف المرات، ولا من مكترث أو مغيث إلا صلوات مشكورة، عن بعد وعن قرب. حكومتهم العراقية ملهية بصراعات على جلد الدب.. انتخابات ونتائج انتخابات.

أما رجال الدين المسلمين من سنة وشيعة في العراق، فلا يأبهون بما يجري لمواطنيهم النصارى، أو على الأقل لا يتحركون بفعالية مؤثرة على الأرض لوقف نزف هجرتهم القسري تحت طائلة القتل المتعمد، والتهديد بالإبادة، وهم سكان البلاد الأصليين الذين يقطنون بلاد ما بين النهرين منذ أكثر من ألفي سنة، أي قبل مجيء الإسلام إلى laquo;أرض السوادraquo;.

وفي التفاصيل الدموية على الأرض، وعلاوة على ما سبق من جرائم بحق مسيحيي العراق، تمّ مؤخراً إعدام أكثر من عشرة أشخاص عن قرب، وبدم بارد متعمد للغاية، بهدف دبّ الذعر والروع في الآخرين، ودفعهم للهجرة النهائية، وترك أرضهم وأرزاقهم، وجعلهم يجتثون جذور تاريخهم العريق الطويل بأيديهم.

كما تمّ قنص العديد من المسيحيين العراقيين، وهم على شرفات منازلهم، ودرز البعض الآخر منهم بالرصاص أمام أبواب عماراتهم ومنازلهم، ورمي جثثهم في الشوارع أمام جموع الناس والمارة.. والهدف هو إياه الترويع للهجرة. وقد ذكر تقرير للأمم المتحدة يتحدث أن نحو 683 أسرة مسيحية تعد 4098 شخصاً هربت من الموصل في الفترة بين 20 فبراير laquo;الفائتraquo; و27 منه.. وتردد صدى هربهم والجرائم التي لحقت بالعديد من أهلهم في الفاتيكان، حيث ندّد البابا بنديكتوس السادس عشر بما يتعرضون له، وحضّ السلطات العراقية على حماية laquo;الأقليات الدينية الأضعفraquo; في العراق.

يتهم مسيحيو العراق laquo;القاعدةraquo; بأنها وراء هذه الجرائم الإرهابية المنظمة. وlaquo;القاعدةraquo;، كما يعرف المعنيون الحقيقيون بالسياسة، وقراءة نتائجها على الأرض، هي الاسم الحركي للأجهزة الاستخباراتية الغربية والإسرائيلية العاملة في العراق، وفي سائر العالم الاسلامي، منذ أن بدأت الهجمة المباشرة على الإسلام واتخاذه عدواً بديلاً للغرب بعد سقوط الشيوعية وبالتالي حدوث الهجمة على المنطقة العربية - الاسلامية، وذلك للعبث فيها، وتقسيمها، والسيطرة عليها، وتمكين إسرائيل أن تكون هي الشرطي المحلي والوحيد للشرق الأوسط الجديد.

إن تهجير المسيحيين وقتلهم المتعمد، وارتكاب المجازر العلنية بهم، وتوجيه التهم للمسلمين بأنهم هم المسؤولون عن ذلك، مسألة ولا شك، تهم الإسرائيلي ومعاونه الأميركي في الحرب الكونية التي تخاض على الدين الحنيف وذلك لتأليب العالم كله عليه، والسكوت بالتالي على جرائم الإسرائيلي في فلسطين المحتلة، وتهويد القدس بالكامل، وطرد ما تبقى من عرب فلسطين 1948.. فضلا عن عرب الضفة الغربية ولاحقاً غزة.

إذن، في العراق وجود لكل أنواع المخابرات المشبوهة، واكثرها نشاطاً جرمياً منظماً هو الموساد الإسرائيلي، وليس مستبعداً أن يكون هو الذي يقوم بهذه المذابح.. والتهمة التي تبعد شبهته عنها هنا جاهزة: laquo;الإسلاميون المتطرفونraquo; وlaquo;الإرهاب الإسلاميraquo; وlaquo;القاعدةraquo; إلخ..

والحقيقة أن من يتحمل مسؤولية الجرائم المتداعية في العراق بحق المسيحيين، وغير المسيحيين، وبموجب القانون الدولي، وشرعة الأمم المتحدة، هو المحتل نفسه، لأنه هو المسيطر على الأرض، وهو الحاكم الفعلي الذي يحدد مسار الأمور ونتائجها.. وهذه المسألة يتم تغييبها عمداً في الإعلام الدولي، وكذلك لدى الجهات الدينية المسؤولة في الفاتيكان وغير الفاتيكان.

من جهتنا، نحن نعرف أن مسلمي العراق، وغير العراق، الذين ترمى بهم تهمة ارتكاب هذه الجرائم، هم ضحية واضحة في هذه اللعبة الاستخباراتية الجهنمية.. ويحق لنا أن نسأل هنا لماذا بدأ مسلسل الجرائم ضد المسيحيين في العراق منذ بدء الاحتلال الأميركي لهذا البلد؟..

هؤلاء الكلدانيون والآشوريون، والذين يتحدث العديد منهم اللغة الآرامية الأولى.. لغة المسيح، والذين عاشوا وترسخوا في أرضهم، ومارسوا حرية معتقداتهم وطقوسهم منذ ما يقارب الألفي عام، وقبل مجيء المسلمين.. ومع وجود المسلمين الذين لم يمسسهم الإسلام ولا المسلمون بأذى.. بالعكس فقد كرمهم الإسلام والمسلمون واحترم معتقداتهم وحرّم التعرض لهم ولقساوستهم ومعابدهم ونسائهم وأطفالهم.. فلماذا فقط بدأ القتل والتهجير بحقهم وعلى مراحل، منذ العام 2003، أي في ظل الاحتلال الأميركي للعراق ومحاولات تقسيمه الجارية مفاعيلها بدقة منهجية حتى اللحظة؟

هنا وللفائدة التاريخية نذكر أنه عندما شرع عمر بن الخطاب ينظم إدارة العراق عقب فتحه، استدعى زعماء البلاد من غير المسلمين ليستشيرهم ويستأنس بآرائهم.. وأعطاهم عهداً هم وسائر مسيحيي بلاد الشام لاحقا على أنفسهم وأموالهم وكنائسهم وصلبانهم، ومعروفة بـ laquo;العهدة العمريةraquo; في بلاد الشام، والرافدين تجاه أهل إيلياء، وقد ذكر الطبري محمد بن جرير في أسانيده التاريخية ما نصه:

laquo;بسم الله الرحمن الرحيم.. هذا ما أعطى عبدالله عمر أمير المؤمنين أهل إيلياء من الأمان، أعطاهم أماناً لأنفسهم وأموالهم ولكنائسهم وصلبانهم، وسقيمها وبريئها وسائر ملتها، انه لا تسكن كنائسهم ولا تهدم، ولا ينقص منها، ولا من خيرها، ولا من نصابهم، ولا من شيء من أموالهم، ولا يكرهون على دينهم، ولا يضار أحد منهم، ولا يسكن بإيلياء أحد من اليهود وغير اليهودraquo;.

كتب هذا العهد في الخامس عشر للهجرة، وشهد عليه خالد بن الوليد وعمرو بن العاص وعبدالرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان.

إذن عن أي إسلام يتحدث الإعلام الغربي بـأنه يهجّر مسيحيي العراق، وغير العراق، من هذا الشرق المسلم - المسيحي؟ ألا يكفي مساخر وضحكا على ذقون العرب والمسلمين.. وكفى لأدوات إسرائيل في laquo;القاعدةraquo; وغيرها.. تلاوة هذه المزامير البائدة المكشوفة.. فالعرب والمسلمون ليسوا سذجا، ولا هم من الهنود الحمر المساكين... وآن للفاتيكان أن يبقّ البحصة، لأن من فيه يعرف بالتأكيد من هم المجرمون الفعليون بحق مسيحيي العراق.