الخرطوم ــ الطيب إكليل

كان ترشيح ياسر عرمان لرئاسة الجمهورية من قبل الحركة الشعبية لتحرير السودان مفاجأة من العيار الثقيل لكل من المؤتمر الوطني، الشريك الأكبر في الحكم، وتحالف المعارضة في أحزاب جوبا.

لقد أعاد المرشح ياسر عرمان خلط أوراق المرشحين للرئاسة، خصوصا الرئيس عمر البشير. وهو كان قد بدا في الأيام التالية، وحتى قبل يوم من قرار انسحابه (الأربعاء)، وكأنه السنجة التي تقلب الموازين اذا لم يحسب لها حساب. طرح نفسه بقوة كالظاهرة laquo;الأوباميةraquo;، بل والبديل الأفضل للحكم الشمولي، حاملا شعار الأمل والتغيير. وردد كثيرا كمرشح للرئاسة يملك الحظوظ الأوفر مقولته المتصلة بالوحدة الجاذبة. وحتى في أسوأ الأحوال، فإذا اختار الجنوب الانفصال فانه يملك البديل لإرجاعه إلى الوحدة ولو عن طريق الكونفدرالية.
وعن جولته الأخيرة في دارفور قال انه قوبل بـlaquo;انتفاضة كبيرةraquo; كناية عن الحماس الذي استقبل به. ولذا تعهد فور وصوله إلى القصر الجمهوري بإصدار قرارات مباشرة تلبي رغبات أهالي الإقليم. وتحدث عن طموحات وآمال عريضة كموج البحار، إلى درجة أن مرشحا للرئاسة في قامة الصادق المهدي أبدى تخوفه الصريح من إمكانية أن تحكم الحركة الشعبية الشمال والجنوب معا! وقال إن انتخاب عرمان رئيسا سيكون مدعاة لعصيان مدني في الشمال. واقترح أن يتم الاتفاق من خلال تأجيل الانتخابات على مرشح قومي واحد. وأشار في لقاء مع laquo;المفكرين والمثقفين والإعلاميينraquo; الى أن في يده قائمة قصيرة من ثلاثة أشخاص يمكن الاتفاق على أحدهم.

صفعة قوية


لم تنتظر الحركة الشعبية الاجتماع الأخير لحلفاء جوبا ومرشحي الرئاسة للفصل في موضوع الانتخابات، فأطلقت مفاجأتها الثانية بسحب مرشحها ياسر عرمان بحجة استحالة اجراء الانتخابات في إقليم دارفور ونسبة التزوير الذي شاب العملية الانتخابية برمتها من قبل المؤتمر الوطني، وإلحاقا به مفوضية الانتخابات المعيبة في أدائها الفني واللوجستي.
كان إعلان انسحاب عرمان صفعة قوية في وجه حلفاء الحركة، وخيبة أمل للكثيرين الذين تعلقوا ببرامجه التي كانوا يرون فيها صمام أمان لوحدة السودان، الى درجة أن مرشح الرئاسة عن الحزب الاتحادي الأصل حاتم السر كان أبدى رغبته في التنازل عن المرشح الشاب إذا كان فوز الأخير يضمن وحدة البلاد. ويبدو أن عرمان نفسه لم يصدق أنه أوقف من تكملة مشواره بقرار من المكتب السياسي للحركة، وقال إن انسحابه laquo;سيسعد المؤتمر الوطني وسيحزن المعارضةraquo;. هذه لحظة صدق مع النفس!

الجنوب للحركة والشمال للوطني


بررت الحركة قرار الانسحاب من معركة الرئاسة ومقاطعة الانتخابات في ولايات دارفور الثلاث بانعدام الأمن وحالة الطوارئ في الإقليم، وعدم وجود منافس من أهل الإقليم على المستوى الرئاسي، إضافة للتزوير وعدم الشفافية.
والغريب في الأمر ان الحركة قررت خوض الانتخابات في المستويات التشريعية والتنفيذية الأخرى في بقية الولايات الشمالية والجنوبية.
والسؤال المطروح اليوم هو: لماذا لم تقاطع الحركة الانتخابات بشكل كامل إذا ما كانت مجروحة من أولها لآخرها؟ الإجابة بكل بساطة هي أن الحركة معتادة على التضحية بحلفائها من أجل تحقيق مصالحها. وتاريخها حافل بذلك. ففي الأمس القريب، وعندما احتجت بقوة على التعداد السكاني، خصوصا في الجنوب، تم إسكات الحركة بأربعين مقعدا في البرلمان laquo;بلا كد ولا نصبraquo;. وهي قبلت بقطع الحلوى. وتمت ترضيتها أيضا بمقاعد إضافية وتأجيل الانتخابات في جنوب كردفان.
لا ضير إذن من سحب عرمان من المنافسة. لقد تمت الصفقة بنجاح وقبضت الحركة الثمن مسبقا. ولكي لا يكون الكلام جزافا وتشوبه شبهة laquo;نظرية المؤامرةraquo;، فإنه في الأيام الأولى لبدء الترشيح صرح مسؤول في المؤتمر الوطني بأنهم قرروا في الحزب عدم منافسة رئيس الحركة سلفاكير على منصب رئاسة الجنوب. ونفت الحركة وقتها بشدة أن يكون في الموضوع صفقة لكي يترك كل شريك للآخر مجاله الحيوي، أي الجنوب للحركة والشمال للمؤتمر الوطني.

سلفاكير والبشير


وبعد فترة قدمت الحركة مرشحها لمعركة الرئاسة: ياسر عرمان رئيس الهيئة البرلمانية ونائب رئيس الأمين العام ورئيس قطاع الشمال، وهو شمالي مسلم متزوج بسيدة جنوبية وله منها طفلتان. ربما قصدت الحركة بذلك طمأنة حلفائها لبعض الوقت عبر إثبات مصداقيتها وحسن نواياها. ولما رفع حلفاؤها أصواتهم محذرين من بدء الوطني في تزوير العملية الانتخابية ووصموا مفوضية الانتخابات بعدم النزاهة، وطالبوا بتأجيل الانتخابات، سايرتهم الحركة في القول. ولما جاءت لحظة الفعل في كتابة المذكرة ورفعها لمؤسسة الرئاسة رفضت الحركة التوقيع، وقبلوا عذرها لأنها جزء من الرئاسة، ووعدتهم بأن النائب الأول سلفاكير هو الذي أصر على إدراج مذكرتهم في جدول أعمال الرئاسة. ولم يحضر سلفاكير ولم تجتمع المؤسسة.
وفي لحظات الانتظار المملة لقوى التحالف كان الرئيس البشير ونائبه الأول سلفاكير يرسلان تقاسيمها عبر الأثير. الرجلان متفقان حول إجراء الانتخابات في مواعيدها، والاستفتاء في مواعيده. وعندما ينسى أحدهما أهمية إحدى العمليتين يذكره الآخر بأنها من استحقاقات اتفاقية السلام. ولسان حال كل منهما يقول للآخر: إذا رفضتم هذه رفضنا هذا.. وإذا انفرطت حبة انفرط العقد كله.

لا أمل بالتغيير


وإزاء هذه التحذيرات المتبادلة، تحركت عدة دوائر إقليمية ودولية (ضامنة وموقعة على اتفاقية السلام ومراقبة)، وجميعها مع إجراء الانتخابات في مواعيدها. فالأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، أبدى تعجبه من الذين يطالبون بتأجيل انتخابات من شأنها التمهيد للتحول الديموقراطي والتبادل السلمي للسلطة. والمبعوث الأميركي إسكوت غريشن راح يستعجل إجراء الانتخابات من أجل laquo;طلاق مدنيraquo; للجنوب بدلا من اندلاع حرب أهلية جديدة! هذه الدوائر كلها مجمعة على إكمال مرحلة التحول، ولو بشوائبها، ولكن بوجود الشريكين القويين - لا غيرهما - كما تنادي المعارضة بحكومة وطنية. وغدا فليذهب كل طرف في طريقه، ولترحّل المشاكل العصية على الحل في الوقت الراهن كقضية دارفور إلى الحكومة المنتخبة.
خلاصة القول أن الشريكين يسعيان للتنفيذ الكامل لاتفاقية السلام الشامل، ولا ضير ان يستعين كل منهما في لحظة تاريخية معينة بـlaquo;كومبارسraquo; لانجاز مهامه. لقد ضمن سلفاكير منصبه لرئاسة حكومة الجنوب في الانتخابات المقبلة، وكذلك البشير الذي قدمت له رئاسة الجمهورية هذه المرة على طبق من ذهب، بعد أن تم سحب الفارس الأوفر حظا من على صهوة جواده في اللفة الأخيرة، وذهب وهو يردد: laquo;التغيير والأمل.. التغيير والأملraquo;... من دون أن يكون هناك من مجيب غير الصدى، والمعارضة ترتشف شاي المساء، وهي لا تسمع ولا ترى.