إبراهيم أحمد

لا ينفرد المجتمع العراقي بالقضية الطائفية، هناك مجتمعات كثيرة، حتى المتقدمة منها، تعاني من قضية الطائفية، ودفعت وما تزال جراءها الكثير من أرواح أبنائها وثرواتها وطاقاتها ومستوى حياتها، ولكن المجتمع العراقي المعروف بالعاطفية والحميمية العائلية والإنسانية والذي اعتاد لعقود طويلة على الألفة والتداخل والانسجام بين أبنائه، حتى في أحلك الظروف، منها سنوات حروب وحصارات طويلة، تقاسم فيها الصبر والجوع وانتظار المجهول، فوجئ بتفجر الهزة الطائفية الكبرى تحت أسس مدينته ومقر عمله وسرير نومه فأفقدته أعز ما يملك: أبناءه وجيرته وصداقاته وأشياءه الغالية ووطنه أيضاً!

وهزت لديه شيئاً آخر أيضاً: طمأنينته أنه شعب واحد بروح واحدة!

بينما القضايا التي يتحدث عنها القتلة: مبهمة تماماً، كلمات غامضة ملتبسة سخيفة، لا يفهم منها سوى كلمة: الطائفة! قلة تتجرأ على القول وسط الدماء المتفجرة إنها: الطائفية لا الطائفة!

ولكن الطائفية ظلت هي الأخرى غامضة غير مفهومة، كانت تفعل المصائب والكوارث وهي ما تزال غامضة وغير معروفة تماماً مثلما لم يكن يعرف القتيل من قتله؟ ولماذا قتله؟ ولم يكن القاتل يعرف من القتيل، ولماذا قتله!

لقد انشغل كثيرون في محاولة تسمية أو وصف ما كان يجري، هل هو حرب أهلية طائفية، عنف طائفي، مناوشات محلية، صراع أحزاب وميليشيات على السلطة والثروة، دون محاولة دراسته بعمق وجرأة ووضوح، والاقتراب من حقيقته لاقتراح حلول جذرية له وليس معالجات سطحية أو صفقات سياسية.

في المجتمعات المتقدمة أنجزت دراسات معمقة حول هذه الظاهرة الخطيرة المدمرة، كانت واسعة وعميقة وتناولت جوانبها النفسية والفلسفية، وساهمت كثيراً في إعطاء تصورات واضحة لدى القادة السياسيين وقادة الرأي العام مكنهم من معالجتها قدر المستطاع والحد من شرورها المزمنة.

ثمة مثقفون في العراق لم يغفلوا المسألة الطائفية قبل تفجرها، لعل أبرز من تناولها بحرص وجرأة وثقافة عميقة هو الدكتور علي الوردي، في كتبه الكثيرة المختلفة، تبعه آخرون، لكن ما استجد فيها وما طرأ عليها من تبدلات خاصة بعد سقوط نظام صدام والوجود الأميركي في العراق ظل دون دراسة جادة معمقة. لا يجوز لوم الكتاب العراقيين في الداخل على عدم الغوص عميقاً في تلافيف القضية الطائفية حيث كان ثمن الموقف أو الكلمة الصائبة النزيهة هنا رأس الكاتب نفسه. كما لابد من ملاحظة أيضاً أن بعض الكتاب المتحزبين وقعوا في مزاج طائفي أيضاً معتقدين أنه المزاج الصحي لطوائفهم، أو خضعوا لمتطلبات مراكزهم وعيشهم فجاروا قادة أحزابهم أو طوائفهم وهوى الصحف التي يعملون بها، بينما ظلت جمهرة كبيرة من الكتاب المستقلين محاصرين خارج الجو العام الطافح بالنفير الطائفي، وربما تعلل بعضهم بضرورة تأملها والتأني بدراستها!

أكثر من تناولوا المسألة الطائفية في العراق من الكتاب العرب تناولوها بسطحية وعجالة وخفة، والأسوأ أن أكثرهم قاربها بتشف واستعلاء وضغينة، معبأً بشهوات وذكريات عطايا النظام السابق، فاختصروا الأمر كعادتهم حتى اليوم: أنها من صنع أميركا، وإن غياب صدام (القوي) ولد الانفجار!

واليوم وبعد أن توارت تلك الأيام المشبعة بالدماء والدموع، وتوقفت أو كمنت الحرب الطائفية، من الضروري البدء بدراسات لمراجعة الفكرة التي استندت عليها الطائفية، العصابة السوداء التي قادت القتلة واللصوص إلى ضحاياهم وأهدافهم. هذه المراجعة ضرورية لسببين، الأول: أن الحالة الراهنة ما زالت هشة وإن الاستقرار الحقيقي لم يتحقق تماماً، وما تحمله نتائج الانتخابات الأخيرة، وما سيترتب عليها من اصطفافات طائفية أو حزبية إذا لم تتوخ المصلحة الوطنية للعراق كله قد تنذر بعودة الأجواء الدموية! وإن ما يجري من صراع على تشكيل الحكومة هو في جوهره صراع طائفي وإن حاول الجميع أن يلبسه لغة الوطنية المرتبكة، أو مصطلحات الدستور! والثاني أن ما جرى ودفع به هذا الثمن الباهظ لابد من استخلاص دروس مفيدة منه، فجدل الأشياء يدعونا لفهم أنفسنا من نحن، ماذا يعني أننا نحن العراقيين سنة وشيعة، رغم الضغوط الهائلة التي وقعت علينا جميعاً وبمختلف المستويات لم تفجر بيننا حرباً أهلية ثابتة مستقرة طويلة مثلما هرست لبنان مثلاً لسبعة عشر عاما؟

لا شك أن الباحث الموضوعي لهذه القضية الحساسة جداً سيصطدم بأمر هام وخطير: هل يسعى نحو الحقيقة وهي قد تكون جارحة صادمة مثيرة أو محرضة، تنكأ الجراح أم يتوخى عدم المساس بكل ذلك فيتحاشى قول الحقائق أو يقول بعضها ويسكت عن البعض الآخر أو يقولها مقنعة؟ في النشر العام وعبر وسائط البث الجماهيري، يمكن مناقشة ذلك، ولكن في الدراسات العلمية والأكاديمية والمتخصصة لابد من قول الحقائق كما هي وبالأسماء والأرقام والوقائع!

غياب التحليلات الجادة والحريصة على الحقيقة ترك الميدان خالياً لأفكار وطروحات وتحليلات تمثل الطائفية المتعصبة المقيتة لهذا الطرف أو ذاك، بينما آراء ومشاعر الناس غير المتورطين بالنزعة الطائفية ضائعة بينهما!

ذلك يستدعي جهود مثقفين وخبراء عراقيين يجعلون أقلامهم مباضع دقيقة مرهفة عادلة تجد وتجتهد في تشريح الحالة الطائفية مبينة مكامن عللها وأمراضها ومحاولة تشخيص علاجات ناجعة لها. من غير المتوقع طبعاً أن تكون المقترحات النظرية سريعة المفعول أو إنها ستضع الناس على طريق الخروج من هذا المأزق المأساوي الذي ابتلوا به لمئات السنين لكنها في الأقل قد تساعدهم في درء خطر الفتنة التي يستدرجون إليها حتى وهم في حلبة الديمقراطية وتبصرهم بالمهالك التي يقادون إليها بأيدي بعض قادتهم ومراجعهم الدينية والسياسية، بالارتباط بجهات خارجية لم تعد تخفى على أحد!

ثمة أمل أن تخرج الكتابات المنتظرة عن المناوشات المنفعلة المنحازة حيث في القضية الطائفية من المستحيل أن تجد الحقيقة عند طرف دون آخر، ولابد أن تنتقل للبحث عنها في تلك المساحة الواسعة التي هي بين خندقي الطائفيين وهي أرض الناس وأملهم وكل ما تبقى لهم!

ربما تسليط بقعة ضوء مهما صغرت تفتح لنا طريقاً نتعلم منه حل المشكلة لا القفز عليها. لقد كان أفدح خطأ أرتكب في مواجهة الطائفية في العراق ومعظم مشاكلنا الأخرى هو عبورها والمرور عليها! وعدم تشخيص جوهرها ومكوناتها القائمة على الأرض!

ينبغي عدم الركون للمظاهر الشكلية المضللة. فحين كان السقف ينضح ماءً يقال إنها ثقب صنعه جرذ لعين وبدلاً من تفحص أسس البيت وجدرانه وسقوفه يهب أهل البيت في معركة مع جرذ ومع أنفسهم ومع الأغراب أيضاً! قبل أن نفكر بوطن جديد ومجتمع سعيد، ينبغي أن تتساقط محرمات فحص الأسس والجدران والحجارة والتراب والماء والكلمات والطرق والأديان والمقدسات والرموز العليا والسفلى. ما سيكتب في هذا المضمار قد يدحض وينهار كله، وذلك جيد فقط أن يكون على أسس من حوار موضوعي هادئ دقيق، لا بسيل من الشتائم واللعنات، إذا قدر لكلمات إي مقال أن تثير جدلاً وحواراً نافعاً حتى ولو لم يبق منه شئ ويبني على أنقاضه كلام افضل يكون قد أدى ما قصد منه وذلك أمر يبعث على الأمل من جديد ولو لدى قلة من الناس من ذوي النوايا الحسنة!

من المفيد دق باب الموضوعة الحساسة الخطيرة ومعاينتها متلبسة بأوهامها وأخطائها وعقدها قبل أن تفاجئنا وتدق أبوابنا بأيدي ملطخة بدمائنا!