خليل العناني


قليلٌ من العقل قد يحقق للعرب كثيراً من الإنجاز في إدارة قضاياهم المتفاقمة. وبعض من القراءة والمعرفة قد يكفل للمثقف العربي فهماً أعمق لتعقيدات السياسة الدولية وما يخصّ المنطقة من رذاذها. فلا يُعقل أن تظل عقولنا أسيرة إما لنظرية المؤامرة بكل ما تعكسه من فشل سياسي وثقافي في فهم الواقع، وإما نظرية quot;التفوق الحتميquot; التي تفسر التاريخ بطريقة حلزونية quot;ما ورائيةquot; تبشّر بحتمية quot;النصر السرمديquot; وإن لم نعمل لتحقيقه.
وسأضرب مثالين على هذه الطريقة البائسة في التفكير، أولهما يرتبط بالموقف العربي (خاصة موقف النخب والمعلّقين السياسيين) من الخلاف الراهن بين واشنطن وتل أبيب بشأن بناء المستوطنات في القدس الشرقية، فضلاً عن استئناف مفاوضات السلام مع الفلسطينيين. وهو موقف لم يخرج بعيداً، كما هي العادة، عن المنطق quot;المؤامراتيquot; في التفكير، باعتبار أن هذا الخلاف هو مجرد تمثيلية quot;أميركيةquot; هدفها دفع العرب بإبقاء الباب مفتوحاً للتفاوض مع إسرائيل، وإيهامهم بأن الولايات المتحدة تقف إلى صفهم وتساند حقوق الفلسطينيين في إقامة دولتهم الموعودة.
وهي نظرة لا ترى إلا ما يتوافق مع منطلقاتها العقائدية والأيديولوجية فضلاً عن حساباتها السياسية، وذلك بغض النظر عما هو حادث فعلاً. وقد خلط أصحابها بين الدعم الأميركي المطلق لإسرائيل، والذي لا خلاف عليه، وبين محاولة إدارة أوباما إعادة النظر في كيفية استمرار هذا الدعم ولكن بطريقة قد تقلل من كلفته السياسية والاستراتيجية التي تؤثر سلباً على المصالح الأميركية في المنطقة.
فلعلّها المرة الأولى التي تلتفت فيها إدارة أميركية إلى مسألة الربط بين دعم إسرائيل والتأثير على المصالح والصورة الأميركية (شكراً بن لادن ورفاقه). ما يفرض حتمية إعادة النظر في بندول هذه العلاقة، شرطاً لبقائها وتميّزها. وهو ما تردد مؤخراً على لسان كبار القادة والمسؤولين الأميركيين الذين أوصلوا رسالة واضحة لإسرائيل مفادها quot;ساعدونا كي نساعدكمquot;.
هذا التحول الواضح في الموقف الأميركي، وإن على مستوى الخطاب فحسب، لا يراه البعض إلا مجرد quot;زوبعة في فنجانquot;. في حين أنه أصاب اللوبي الصهيوني بالذعر والقلق من مغبة توتير العلاقة مع واشنطن، خاصة في ظل تنامي ظاهرة quot;أميركا أولاًquot; داخل الأوساط الشعبية الأميركية، والتي دفعت اللوبي الصهيوني كي ينتفض من أجل إصلاح وتصحيح صورة إسرائيل لدى الرأي العام الأميركي. وهو ما يمكن تلمسّه من حجم الإعلانات والدعاية التي يتم نشرها حالياً في شبكات التلفزة الأميركية بعشرات الملايين من الدولارات من أجل تحسين موقف نتنياهو في مواجهة أوباما.
ولعله من المفيد أن نترك الجدل حول طبيعة هذا الخلاف وحدوده كي ندلف للسؤال الأهم وهو: كيف يمكن للعرب، إذا ما كانت لديهم نية للحركة، الاستفادة منه من أجل تحقيق المصلحة العربية، بدلاً من دفن الرؤوس في الرمال واعتبار ما يحدث مجرد quot;تمثيليةquot;؟
المسألة الثانية هي تلك الضجّة المفتعلة حول مقترح الأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى بإنشاء رابطة للجوار العربي، والتي أطلقت بدورها سيلاً من الكتابات والتعليقات التي وجهّت اللوم للأمين العام واعتبرت تصريحاته quot;نعياً رسمياًquot; للنظام العربي. ولا أعرف ما إذا كان هؤلاء المعلقّين لا يدركون حقاً حجم المأساة التي يعيشها هذا النظام الذي بات ينتظر quot;رصاصة الرحمةquot;، أم أنه الرفض لمجرد الإشارة إلى إيران في مبادرة موسى؟ وإذا كان البعض يرى أن مبادرة موسى هي بمثابة غطاء شرعي لتبرير التدخلات الإقليمية في الشأن العربي، فإن بقاء النظام العربي على حالته الراهنة، هو بمثابة تأكيد لاستمرار هذه التدخلات وإطلاق جميع الأيدي الإقليمية للعبث في القضايا العربية.
دعك من إيران وتركيا، وكلتاهما مرآة كاشفة لعجزنا وفشلنا، ودعنا نتحدث عن رابطة عربية جديدة تقوم على المصالح فقط، ما دامت الروابط الأخرى كاللغة والتاريخ والثقافة قد أثبتت عجزها، ولربما كان هذا هو مغزى quot;مبادرة موسىquot; الأخيرة قبل أن يأخذ عصاه ويرحل.
*أكاديمي مصري، جامعة quot;دورهامquot;، بريطانيا