منير شفيق
الشريط الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة حول جريمة قتل ثمانية مدنيين عراقيين من قِبَل الطيران الأميركي، وبدم بارد، ومع سبق الإصرار والتصميم، يحتاج إلى وقفة تأمل من جهة، ويثير من جهة ثانية السؤال: من سرّب هذا الشريط؟ ولماذا في هذا التوقيت بالذات؟ أو من بعث بهذه الرسالة إلى الجيش الأميركي؟
الانطباع الأول الذي يخرج به كل من يشاهد الشريط أنه أمام جريمة حرب يرتكبها الجيش الأميركي، بشعة، ومروّعة، ويجب أن تسيء إلى سمعته، وتزيد من غضب الرأي العام العراقي والعربي والإسلامي والعالمي عليه.
إن ارتكاب الجيش الأميركي الذي يحتلّ العراق مثل هذه الجريمة مسألة بدهية، لأن الحرب على العراق من مبتدئها وحتى الآن جريمة حرب وإبادة بشرية مستمرة. ومن ثم فإن ارتكاب الجريمة التي يصوّرها شريط الفيديو الذي بثته قناة الجزيرة يدخل ضمن ذلك الإطار، وليس فيه من مفاجأة غير خروجه بالصوت والصورة، ومن داخل الطائرة التي ارتكب طاقمها الجريمة، وبلا إمكان لنكرانها، أي أننا أمام جريمة على رؤوس الأشهاد، وقد وقف مرتكبها معترفاً، وبلا شبهة أخذ شهادته عن طريق التعذيب أو الضغط أو المساومة.
انكشاف هذه الجريمة مهم في هذه المرحلة، لأنه يزيد من تدهور الاحتلال الأميركي في العراق وانفضاحه وسوء سمعته وسمعة أميركا معه، وهذا أمر يستحقه وتستحقه القيادة السياسية الأميركية عقاباً على جريمة احتلال العراق واستمراره حتى الآن، وما نجم عن هذا الاحتلال بصورة مباشرة، أو غير مباشرة، من كوارث إنسانية واجتماعية ومادية وسياسية للعراق بلداً وشعباً وهوية ووجوداً.
على أن الذي يدقق في شريط الفيديو المذكور يستنتج ومنذ اللحظة الأولى أنه مسروق من أرشيف البنتاغون، فقد جاء من داخل قمرة القيادة في الطائرة التي ارتكبت الجريمة في مرحلتها الأولى ثم في مرحلتها الثانية عندما جاءت سيارة مدنية وحاولت إنقاذ الجرحى الذي بقوا أحياء بعد إصابتهم بإطلاق النار الصادر عن رشاش، أو أكثر في الطائرة، فالشريط ينقل المحادثات التي جرت بين المنفذ-المنفذين في الطائرة والقيادة التي تشرف عليها، فالطائرة لم تطلق النار إلا بعد أخذ إذن، أو أمر، من القيادة، أي أننا لسنا أمام جريمة يرتكبها جندي بقرار منه في الميدان، وإنما أمام قرار عسكري صدر عن القيادة التي كانت تشهد من خلال تصوير الفيديو الهدفيْن الأول والثاني قبل إصدار قرار التنفيذ.
من هنا ينشأ السؤال التالي الذي يحتمه شريط الفيديو المذكور: من سرّب الشريط، وبِقصد نشره؟ وهذا يجب أن يكون من الداخل، ثم لماذا بهذا التوقيت، وماذا أراد منه؟
بالتأكيد، لا مصلحة للجيش الأميركي أو للرئيس الأميركي أوباما ومؤيدّيه في الإدارة في نشر هذا الشريط الفضيحة، فالشريط إساءة للجيش ولأوباما بلا جدال، الأمر الذي يُبعد شبهة أن يكون الجيش وراء تسريبه ونشره، وذلك لأن محتواه ونشره لا يعودان على الجيش بأية فائدة عسكرية أو سياسية أو معنوية (مثلاً لإظهار القدرة والمهارة)، وكذلك لا يعودان على الجيش بأيّة فائدة في إخافة العدو أو إضعاف معنويات مؤيدّيه، أو محاولة إذلالهم، كما حدث في حالات معيّنة، مثل نشر صور التعذيب والإذلال لما جرى في سجن أبوغريب، وقد كان البنتاغون في عهد وزير الدفاع رامسفيلد وراءها.
الجيش الأميركي في هذه المرحلة، وفي هذا التوقيت بالذات منخرط وإلى جانبه الرئيس الأميركي في صراع جاد في مواجهة سياسات نتنياهو واللوبي اليهودي الأميركي فيما يتعلق بعملية التسوية وضرورة وقف الاستيطان والوصول إلى اتفاق ما في فلسطين، وقد عبّر الجنرال بترايوس قائد المنطقة الوسطى، ورئيس الأركان مولن، ووزير الدفاع غيتس، عن أن الجيش يرى في تلك السياسات تعريضاً لأمن قواته في جبهات القتال في أفغانستان والعراق وباكستان للخطر، وأن الجيش يرى في إيجاد تسوية ما خدمة للأمن القومي الأميركي وللمصلحة الأميركية العليا، والمقصود في جبهات القتال وحيث نزيف الدم، كما ضرورة نزع الورقة الفلسطينية من يد إيران كذلك.
من هنا يجب أن يُقرأ تسريب هذا الشريط باعتباره نوعاً من الردّ على الجيش الأميركي من جانب اللوبي اليهودي الصهيوني وبعض مؤيّديه في الحزب الجمهوري أو الحزب الديمقراطي، فمن جهة ثمة مصلحة لهذا اللوبي ومؤيدّيه في إضعاف الجيش وإرباكه والضغط عليه ليوقف حملته الضاغطة على نتنياهو وسياساته الاستيطانية، ومن ثَمَّ تصويرها باعتبارها تحدّياً للرغبة الأميركية التي عبّر عنها الجيش والرئيس الأميركي أوباما ونائبه بايدن ووزيرة الخارجية كلينتون من حيث ضرورة الإسراع في تحقيق تسوية إسرائيلية-فلسطينية.
أما من الجهة الأخرى فإن الذين وراء تسريب الشريط وبهذا المستوى من التحدّي للجيش هم من المتنفذين الذين يمكنهم اختراق أرشيف البنتاغون، والكل يذكر بهذه المناسبة، أن للوبي اليهودي الأميركي سوابق في اختراق الأرشيف quot;السري للغايةquot; في البنتاغون، وهنالك قضايا وأحكام قضائية تؤكد مثل هذا الإمكان في الاختراق.
وختاماً يجب ألاّ يُفهم من الإشارة إلى الطرف الذي سرّب شريط الفيديو أي تقليل من خطورة الجريمة التي ارتكبها الجيش الأميركي وضرورة إدانتها: فالأهم هو التنبّه إلى ما يجري، في هذه المرحلة من صراع أميركي-أميركي حول قضية التسوية في فلسطين، أو بالأدّق حول كيفية تصفية القضية الفلسطينية.
*منسق عام المؤتمر القومي الإسلامي
التعليقات