منح الصلح

منذ أن تأسست جامعة الدول العربية بغاية تفعيل القدرات التي تملكها الأمة في مواجهة الخطر الصهيوني على فلسطين، والشعوب العربية تنظر بخيبة مريرة الى الفارق الواسع بين إمكانات الأمة والأمل بقياداتها من جهة وواقع الارتباك والعجز عن مواجهة أطماع إسرائيل بالاستيلاء على ما تريد من الارض الفلسطينية. ولعلنا لا نخطىء إذا قلنا إن آداء العرب السياسي والعسكري في وجه العدوان الصهيوني المستمر وليس آداء الفلسطينيين وحدهم أصبح هو الزاوية التي يطل منها العالم كله على بلادنا ليخرج بأقسى الاحكام على أمتنا من الخليج الى المحيط الاطلسي.

لم يعد المهم عند شعوب العالم وحكوماته معرفة من هو صاحب الحق الشرعي في فلسطين، فهي قضية لا تشغلهم كثيرا بل أصبحت الأولوية عندهم -فيما يخصنا نحن كأمة وشعوب- هو تساؤلهم من هم هؤلاء العرب وهل هم يعيشون في هذا العصر؛ بمعنى القصور العربي عن إدراك أن التنافسية وليس الخصومة ولا الاتكال على الآخر القوي هي موزعة الحصص وسبيل الحياة في هذا العصر.

انجح حيث أنت في عملك أيها العربي، انتج بقدر طاقتك، كن غيورا دائما على تكبير هذه الطاقة، تنفتح في وجهك أبواب الوجود الكريم في هذا العالم، كن معتزا بقيمك، موسعا لإمكاناتك، مطورا لحياتك تكن قوة يضطر القوي والصغير في هذا العالم لمراعاتها.

إن القمة العربية التي انعقدت أخيرا كان مفروضا فيها أن تحمل الخبر اليقين لا عن نظرة العالم الينا سلبا أو إيجابا، ،هل سيكون متعاطفا معنا أو مستمرا في السلبية إزاءنا؟، بقدر ما هو مفروض فيها-أي القمة- أن تشهد لصدقيتنا نحن العرب في تحديد أولوياتنا وفي التساعد على رفع سقف إمكاناتنا انطلاقا من تعرفنا على مشاكلنا الداخلية وعلاقاتنا فيما بيننا على ضوء رؤيا واقعية ومثالية معا، لا تعمى عن مواطن الضعف حيث وجدت في سياساتنا مع بعضنا البعض، ومع العالم، لا لتعود بنا الى ماضوية تفاؤلية ساذجة على النمط العزامي الذي عرفته جامعة الدول العربية في عهدها الاول ولو ظلت تلك على علاتها خير مما تلتها من عهود، تراجع في بعضها الرهان على التضامن العربي حتى حد الصفر. كان عبد الرحمن عزام صناعة سعودية مصرية أو مصرية سعودية، بل حتى الآن لا أحد يستطيع أن يجزم حصة أي من الدولتين كانت عندها الأوزن. ولكن مما لا شك فيه أن هذه الثنائية كانت طيلة وجوده في مركزه ذات مردود ايجابي على انتاجه لأن لكلتيهما رمزيتها العربية شديدة الضرورة للعمل العربي المشترك. نقول هذا، والكثيرون من العائدين مؤخرا من مهرجان الجنادرية الثقافي في المملكة العربية السعودية لا ينفكون عن التأكيد أن سعودية جديدة تولد في أرض نجد والحجاز منذ سنوات عديدة معتزة بجديدها اعتزازها بقديمها، فهي أن تكون وتظل دائما وأبدا قلعة للإسلام والعروبة الا أنّها أيضا لا ترفض الخير النافع من حضارة الغرب ما دام هذا يقويها ويعزز قدرتها في عين نفسها وشعبها والعالم ولعل أهم ما رآه زوار الجنادرية وصاحب هذا المقال منهم أنهم خرجوا باقتناع أن زيارة المملكة لم تعد للتبرك بمكان ولادة الاسلام فحسب بل أصبحت ايضا للتعرف بجديدها أيضا ومجال النهوض الذي عاشته وتعيشه منذ زمن.

فالسعودية الحالية تعيش من بعض الوجوه الثقافية والاجتماعية حالة متقدمة لا يعيشها الا المتقدم الصاحي من الدول والأوطان. وليس ملوكها وأمراؤها وحدهم هم الذين يخرجون منها ليزوروا العالم، بل مواطنوها العاديون كثيرو السفر أيضا الى شتى أقطار الدنيا عديدون منهم يعرفون بعض البلدان الغربية وغير الغربية مثل أهلها وأكثر.

وخير ما في ذلك كله من وجوه الانفتاح على العالم أنّه لم يأت بالطفرة بل بالتدريج ولم يقتصر على طبقة او فريق من السعوديين دون آخر بل شمل معظم طبقات المجتمع. فكل ولي أمر يجيء الى الحكم يختار طريقته الشخصية. كأن كانت الاجتهادات الشخصية هي التي تقرر أحياناً خطوات الانفتاح، أما الآن وبعد الموسم الأخير من مواسم الجنادرية في عهد الملك عبد الله فإنّه بات من الممكن الجزم أن المملكة تجذرت من الناحيتين الثقافية والاجتماعية في محيطيها العربي والاسلامي وربما غيرهما من بعض الوجوه لتدخل مرحلة التنافسية مع الكثير من المواسم الثقافية المشابهة لها في العالم. فآخر موسم من مناسبات الجنادرية الدورية أُقنع القريب والبعيد أن كل زائر للسعودية في اي موسم ثقافي واجتماعي قادم مرشح لأن يكون شاهدا على أن المملكة دخلت تدريجيا من الناحيتين الثقافية والاجتماعية وبطريقة صادقة وعقلانية مرحلة جديدة تضيف ألقا الى ألقها القديم كمهد للاسلام ومنبع للعروبة لتصبح ايضا نموذجا ومختبرا متقدما لحضارة هذا القسم العربي الاسلامي من خريطة العالم.

العراقة وحدها لا تكفي، بل لا بد من العمارة أيضا. وهذا ما أدركته المملكة بالتجارب العميقة والصادقة التي مر بها ملوكها المتعاقبون حتى جاء عبد الله بن عبد العزيز يقيم بعقلية الاختبار وبعد النظر والتأسيس المستمر قاعدة الانطلاق المكونة من السياسة والثقافة والاجتماع التي بدون توفرها جميعا بالشكل المطلوب لا تستطيع مملكة ذات رسالة في أرض العرب وغير العرب أن تنهض بأعبائها كدولة ذات دور طليعي في عالمها العربي الاسلامي وبدونه لا تكون أمم ودول كثيرة بل قارات مختلفة قادرة على أن تعطي ما عندها لغيرها ولا أن تكون مع هذا الغير قادرة على العمل لخير البشرية جمعاء. ولعل الملك الصالح وصل إلى قناعة أن الحكم لا يكون صالحا بالمعنى الصحيح الذي تحتاجه بلادنا الا اذا كان مبنيا على مبدأ التأسيس المستمر. لا سيما اذا كان الوطن المعني- اي السعودية- منذورا منذ البدء لأن يكون ذا دور خاص للقريب من الدول المحيطة به وللبعيد.

في الوقت الذي كان المشاركون العرب وغير العرب في مهرجان الجنادرية يعودون متفائلين بالروحية التي بثها الملك عبد الله في احدى الدول الأكبر وزنا في المنطقة، كانت أقوال بعض المراقبين المتشائمين مما يجري في بعض الدول العربية تقدم صورة قاتمة عن بعض أوضاعنا فتروي أن التعاون العربي المتجسد بأرفع مؤسسة سياسية من مؤسساتنا وهي مؤسسة القمة العربية لم تقدم حتى الآن لفلسطين ما تقدمه الصهيونية والولايات المتحدة لاسرائيل، فالقمة العربية الأخيرة على سبيل المثال قدمت لفلسطين خمس مئة مليون دولار بينما اسرائيل أنفقت 14 مليار دولار ليهود القدس ومدنها وذلك بفضل مساعدات أميركية وغربية.

وقد كان الرئيس الليبي ذكيا باستضافة الدول العربية الى قمة تعقد في ليبيا موحياً أنّه لا يزال يرى في العروبة كفكرة وكمؤسسة قوة لجذب الشعوب العربية والانسان العربي رغم كل ظواهر التخلي عنها عند الكثير من المراهنين عليها خلال عقود طويلة.

نقول ذلك لا مبايعة له ولا ترشيحا اياه لدور مستقبلي يقوم به دون غيره من القيادات ولكن تأكيدا على أن العروبة لا تزال قوة تستحق الرهان عليها عند الكثيرين رغم كل ما لاقته من خيبات ورغم كل ما لحق بها من تراجع، صار من السهل معه الحديث عن دول الجوار العربي بدلا من العالم العربي.

الا أن هذا كله شيء وما شهده ويشهده أبناء الأمة عند المراهنين الحقيقيين على العروبة في المملكة شيئاً آخر، فالحكم الصالح هو ذلك الذي ينطلق صاحبه من عقيدة أن روحية التأسيس الدائم المستمر للدولة والمجتمع هي ما تعطي الحاضر جاذبية الإشعاع فيما حوله.