يوسف مكي

نواصل في هذا الحديث سلسلة مقالاتنا التي بدأناها بالحديث السابق، حول المشروع النهضوي العربي، الذي طرحه مركز دراسات الوحدة العربية . وقد وعدنا بتناول الكيفية التي تطور فيها العمل، ضمن أنشطة المركز، لإنجاز هذا المشروع، ومناقشة المبادئ التي ارتكز عليها، والتيارات الفكرية التي أسهمت في صياغته .

كان المركز قد أعطى أرجحية في إصداراته للعناوين والبحوث ذات الصلة بمشروع النهضة، كمقدمة لازمة لخلق بيئة ملائمة لإنضاج المشروع النهضوي في صيغته النهائية . وفي سياق التحضير للمشروع أيضاً، كلف المركز عدداً من المفكرين والباحثين بتقديم مقترحاتهم حول تصور المشروع ومخططه . وتم حصر تلك المقترحات والتصورات، ونوقشت بشكل مكثف داخل المركز عام ،1996 وفي مايو/أيار عام ،1997 عقد المركز حلقة نقاشية بمدينة القاهرة، حضرها عدد من المفكرين العرب، ناقشت على مدى يومين مخطط المشروع الأولي، وأدخلت عليه جملة من التعديلات، كما وضعت مخططا أوليا لندوة مكثفة يعقدها المركز فيما بعد، لمناقشة المشروع النهضوي العربي .

وقد عقدت الندوة المذكورة في مدينة فاس، بالمغرب العربي، عام ،2001 وشارك فيها ما يزيد على المائة باحث ومفكر، من مختلف التيارات السياسية والفكرية العربية . وتناول المشاركون في الندوة، على مدار أربعة أيام، العناصر الستة، التي شكلت أهداف المشروع النهضوي العربي المعاصر: الوحدة العربية، والديمقراطية، والتنمية المستقلة، والعدالة الاجتماعية، والاستقلال الوطني والقومي، والتجدد الحضاري .

لم يكن اختيار هذه العناصر الستة، عملاً انتقائياً، بل كان نتيجة قراءة مستفيضة للواقع العربي، في المرحلة الحاضرة، وأيضاً نتيجة لتقييم تجارب الماضي، وأسباب تعثر المشروع القومي العربي . لقد اكتشف الباحثون والمفكرون في ندواتهم المكثفة التي عقدها المركز، أن أحد معوقات النهضة العربية، هو تغليب أحد عناصرها على العناصر الأخرى . فقد غلبت في مرحلة الاستقلال الوطني قضية الحرية والاستقلال على عناصر النهضة الأخرى، من تنمية وعدالة اجتماعية وتجدد حضاري . وحين تم انجاز الاستقلال انتقل الفكر العربي من النقيض إلى النقيض، مغلباً قضايا العدل الاجتماعي على قضيتي الديمقراطية والحرية، والنتيجة أن تغليب أحد عناصر النهضة على ماعداه، قد أدى إلى شلل المشروع، وإلى تعطل إنجاز جميع مكوناته، بما في ذلك العناصر التي أخذت حيزاً إعلامياً كبيراً في حضورها .

لقد شكل تبني هذه العناصر الستة، ككتلة واحدة، لا يغلب أحد عناصرها على الآخر، نقلة نوعية في الفكر النهضوي العربي المعاصر، سوف تتضح نتائجه بشكل إيجابي، فيما بعد . وقد شملت بحوث ندوة فاس، وبشكل متوازن تناولاً لجميع عناصر النهضة . ونشرت البحوث والمناقشات في كتاب ضخم صدر عن المركز في العام نفسه، تحت عنوان ldquo;نحو مشروع حضاري عربي: بحوث ومناقشات الندوة الفكرية التي عقدها مركز دراسات الوحدة العربيةrdquo; .

وكانت تلك الندوة هي بداية الانطلاق الجدي نحو صياغة المشروع النهضوي المعاصر، حيث شكلت عقب الندوة مباشرة، لجنة صياغة مخطط المشروع، في ضوء بحوث الندوة ومناقشاتها . وقد عقدت اللجنة اجتماعها التمهيدي التشاوري في مدينة فاس . وكلفت إدارة المركز مجموعة من الباحثين بإعداد مقترحاتهم لمخطط المشروع لعرضه على اللجنة المكلفة بصياغته . وأقرت في اجتماع عقد في يوليو/تموز عام ،2001 بصيغة شبه نهائية، تمت المصادقة عليها، واعتبرت نهائية في أغسطس/آب من العام نفسه . لينطلق العمل فيما بعد نحو تحرير فصول المشروع، من قبل أعضاء لجنة الصياغة .

هذه المقدمة، وجدناها ضرورية، لتعريف القارئ الكريم، بضخامة ومستوى الجهد الذي بذل من قبل المركز للوصول إلى الصيغة النهائية التي نشرت في كراس صغير، لا يتعدى حجمه المائة والثلاثين صفحة، لكنه كان نتاج عمل دؤوب ومثابر، وعصارة تحليلات ومناقشات ثرية وعميقة .

فمن أجل استكمال هذا المشروع في صيغته النهائية، أعدت ثمان أوراق خلفية لنص المشروع، في ضوء المناقشات والأوراق التي قدمت في فاس، ومرفقات أخرى، من مواد مرجعية للاستعانة بها لهذا الغرض . وفي صيف عام 2004 سمى المركز أحد أعضاء لجنة الصياغة منسقاً، وكلف بتحرير المسودة الأولى لنص المشروع، اعتماداً على الأوراق والبحوث التي أعدت سابقاً، إضافة إلى أوراق ندوة فاس . وحين استكملت الصياغة الأولى للمشروع، عقد اجتماع للجنة الصياغة في مدينة القاهرة، في يوليو/تموز عام ،2005 لمناقشة المسودة، شارك فيه خمسة عشر مفكراً .

وفي نوفمبر/تشرين الثاني دعي إلى المشاركة باحثون من خارج لجنة الصياغة، في ندوة موسعة عقدت بمدينة بيروت، عرضت عليهم المسودة الثانية، وأدخلوا عليها تعديلاتهم، وكان لي شرف المشاركة في المناقشات المكثفة التي جرت في تلك الندوة . وقد قدمت المسودة الثالثة للمشروع إلى المؤتمر القومي العربي الذي عقد عام ،2007 كما أرسلت إلى عدد كبير من الشخصيات الفكرية والسياسية لإبداء آرائها حولها . كما نشرت على الموقع الإلكتروني لمركز دراسات الوحدة العربية، لعموم القراء العرب، للغاية نفسها .

وهكذا، فإن المشروع النهضوي العربي الذي صدر هذا العام عن المركز هو حصيلة تجربة كبيرة، وعمل ضخم، شاركت فيه مختلف التيارات الفكرية العربية، من قوميين وإسلاميين ويساريين وليبراليين، وتوج بملاحظات جوهرية وتعليقات قدمت من لجان المؤتمر القومي العربي، وآراء المفكرين والباحثين والخبراء العرب، ليكون مشروعاً للأمة بكل أطيافها، وليس لفريق دون آخر، وبعيداً عن الفئوية والحزبية الضيقة .

والآن وقد استغرقنا طويلاً في تفصيل الخطوات التي قطعها المشروع، حتى وصل إلى صيغته النهائية، التي أعلن عنها المركز في مؤتمر صحافي عقد لهذه الغاية، ما هي المحركات التي حرضت على العمل لصياغة هذا المشروع؟ وهل يمثل فعلاً نقلة نوعية على طريق تجديد الفكر القومي، ومشاريع النهضة؟ وما هو الدور الذي ينبغي أن يضطلع به المثقفون العرب لتعضيد هذا المشروع، باعتباره شأناً حيوياً وجوهرياً للأمة، إذا ما أرادت أن تساهم بفعالية في مسيرة الحضارة الإنسانية الصاعدة إلى أمام؟ هذه الأسئلة وأخرى ذات علاقة، ستكون مواضيع للمناقشة في سلسلة أحادينا القادمة عن المشروع النهضوي العربي، بإذن الله تعالى .