عبدالرحمن الوابلي

يردد مجتمعنا ذو الثقافة الذكورية المثل الشعبي القائل بـquot;النار ولا العارquot; إيماناً منه بمصداقيته واختزاله لخلطة الحياة السرية، أكثر من إيمانه وتصديقه بكروية الأرض أو العلاقة الوطيدة بينها وبين قانون جاذبيتها. برغم كون مجتمعنا الآن أخذ يخفف من ترديد هذا المثل، كما كان بالماضي. وقد لا يكون تخفيفه في ترديد هذا المثل الجاهلي، من قبيل مراجعة مصداقيته؛ ولكن من قبيل كونه قد أصبح تحصيل حاصل. ٍأي أصبح مضمون المثل مطبق على أرض الواقع الحياتي اليومي المعاش، من خلال أنظمة وقوانين اجتماعية، تديره وتتحكم به.
فمنذ تشكل ذهنية التحريم لدى المجتمع، والتي تم اجترارها وتطويعها لتبرير وتمرير النزعة الذكورية التسلطية لديه، وهو يسعى جاهداً ومجاهداً، من خلالها لتحديد علاقة الأنثى بالذكر، وفرز المقدس والمدنس بينهما؛ والعمل بشكل دؤوب وبلا مواربة ولا تمويه بعدم خلط الثاني بالأول. وأصبح التفنن بالفرز والتضييق هو همها وشغلها الشاغل بالحياة ولو أتى ذلك على حساب الحياة نفسها وجوهرها الإنساني والديني والأخلاقي والمدني، وهو حفظ حياة الإنسان وصيانة كرامته ورعاية مصادر رزقه ووسائل عمرانه وتقدمه ورقيه.
فالمثل quot;النار ولا العارquot; كأي مثل آخر عند أي شعب من الشعوب، يختزل الشعب من خلاله مكونه الثقافي ومحرضه الوجداني، ومحركه الشعوري الواعي واللاواعي. فالأمثلة كنوز الشعوب الناطقة، تتوارثها أجيالها عن بعض، وهي كنوز يتقاسمها أفرادها الأغنياء مع الفقراء وبالتساوي، وبعدالة لا مثيل لها، قبضاً وصرفاً. فالمثل أعلاه، هو مثل عربي شعبي، مئة بالمئة، يختصر العار والنار طبعاً بالأنثى، وليس بالذكر شريكها في إحداث العار، والذي بدونه لا يكون هنالك عار ولا نار. حيث quot;الرجل يحمل عيبه في جيبهquot; كما يقول المثل الشعبي السنيد والعضيد لمثلنا الأول. أما الأنثى فتحمل عيبها داخل جسدها. إذاً فالذكر يستطيع التخلص من عيبه باستبدال ثوبه، حامل الجيب، أو غسله وتطهيره وتنتهي لديه مشكلة العيب من أساسها. أما الأنثى فلا تستطيع التخلص من جسدها، أو استبداله بأطهر منه؛ ولذلك يقوم الذكر نفسه في أداء مهمة تخليصها منه بالنيابة عنها، وذلك بقذفها بالنار، قبل أن يبرز العار. ولذلك فليس من مهمة الأنثى مساءلة الذكر - قريبها - عن عار أو عيب ارتكبه، ولطخ به سمعة العائلة بأكملها؛ ولكن من حق وواجب الذكر مساءلة الأنثى ndash; القريبة - عن ذلك وتنفيذ حكمه المسبق بها.
كما أن مفردات اللغة (اللهجة) الشعبية المصاغة بالعقلية الذكورية التسلطية ضد الأنثى، تساندها وتبررها في ذلك ذهنية التحريم، قد أحاطت مسميات الأنثى بالتحريم بدون أي مواربة أو مداراة. فتم استبدال مسمى المرأة بـquot;الحرمةquot; وجمعها quot;حريمquot; والتي اشتق منها، باب الحريم ومدخل الحريم ومجلس الحريم وسوق الحريم وما شابه ذلك من أي ملحق حريمي عام أو خاص. حيث تم عزلها عن الحياة بشكل عام، وخصصت لها ملاحق تحولت إلا quot;جيتواتquot; تحريم ومحرمات وحرمان. وأي حرمة من الحريم تتجرأ وتخرج من جيتوات التحريم، يكون مآلها الحرمان من الحياة.
فخروجها من جيتوات الحريم والتحريم وبدون محرم حرام وجالب لمحرم؛ يكون مدعاة لحدوث العار للعائلة، وسقوطها بالنار.
والغريب والعجيب أن العقلية الذكورية المدموغة بالذهنية التحريمية، لا تنفك ولا تهدأ عن غيها وتسلطها على الأنثى وبطرقها التعسفية المكررة والممجوجة، ولا تعطي لنفسها مهلة إجراء مراجعة للذات، وذلك باستعرض الأسباب والمسببات والخروج بالنتائج؛ وقراءتها قراءة منطقية واعية، ومقارنة وضعها بالأوضاع المقاربة لوضعها، من ناحية التقدم والتخلف. حيث العقلية الذكورية ذات الذهنية التحريمية تتحرك من خلال غرائزها المكبوتة التي تحرك ثقافتها الواعية واللاواعية؛ لا من خلال العقل والمنطق والدين والعلم، وحسابات الخسائر والفوائد الإنسانية والمادية، حيث المراجعات والحسابات هي جزء من الوظيفة العقلية ومعدومة من حسابات الغرائز. وهي حالة مرضية (نفس ndash; اجتماعية)، أي حالة إصابة بعصاب نفسية وذهنية مرجفة وحادة.
فالعقلية الذكورية ذات الذهنية التحريمية تتعالى على واقعها ومحيطها، وتخلق لنفسها حالة طهرية زائفة خاصة بها؛ خصوصية تدعيها دون غيرها من البشر وتتشبث بها وتتحرك حولها. فصناعة الوهم، والتعامل معه كحقيقة غير قابلة للجدل ولا للنقاش، هي علة أي مرض نفسي ومصاب كل عته عقلي. حيث مخرجات التعامل مع الوهم تكون كارثية ومصادمة للواقع؛ ومن هنا يكون الإيغال بالتخبط، وذلك بالتعامل مع الوهم كحقيقة والحقيقة كوهم، فتضيع الرؤية ويتيه الدليل ويغيب المنطق وتختفي الحجة؛ ويحل محلها quot;اللجةquot; والمزيد من الأفكار الفجة.
والخلط بين الأسباب والنتائج، لدى العقلية الذكورية ذات الذهنية التحريمية، تكون في الحكم على الغرائز من الغرائز ولأجل الغرائز. فالعزل القسري التحريمي بين الذكور والإناث منذ سن مبكرة، يحدث حالة شبق بين الجنسين. فتظهر النتيجة المنطقية لمثل هذه الحالة، وهو الهياج الشبقي عند الذكور. فهذه نتيجة طبيعية لوضع أي حلة غير طبيعية في الحياة، فتنظر لها العقلية الذكورية بأنها سبب قد يؤدي لنتيجة كارثية، فيشدد من عمليات العزل ويطالب بالمزيد من طرح المحرمات، والمزيد من تحريم المحللات، وهكذا تستعر الحالة الشبقية لتتحول لحالة سعار. فتتطوع العقليات الذكورية وتطلق العنان لحناجرها برفع الصوت بالتنبيه والتحذير من حالة السعار الشبقي الحاصل بين الجنسين؛ وتطرح حلولها السحرية الجاهزة لحل المشكلة القائمة، والتصدي لها، وهو العزل بين الجنسين ثم العزل بينهما ثم المطالبة بالمزيد منه، والتي هي السبب الأول والأخير في حدوث المشكلة واستعارها. فيتحول الجنس في المجتمع من غريزة طبيعية مثلها مثل باقي الغرائز التي وضعها الله بالإنسان لحفظ نوعه وصيانته، إلى هم وهوس اجتماعي.
وهنا تختزل المرأة في المجتمع الذكوري ذي الذهنية التحريمية من إنسانه كاملة الإنسانية والأهلية، مثلها مثل الرجل كما أرادها خالقها تعالى، إلى شيء من أشياء الرجل التي يستمتع بها، ويحق له التصرف بها. ولذلك فوصفها بالجوهرة الثمينة التي يغلق عليها بالخزانة ذات الأقفال المحكمة، أو بالحلوى التي تغطى خشية وقوع الذباب عليها؛ لم تأت من فراغ، وإنما كتعبير عن هوس في حب تملكها وشهوة بتذوقها ورغبة عارمة للاستمتاع بها.
ولذلك فليس بالمستغرب أن يصل الحال بحجب المرأة في المجتمع ذي الثقافة الذكورية والذهنية التحريمية، وراء جدران موصدة. وذلك حتى لا يستطيع الرجل الغريب عنها الاقتراب منها، حتى ولو كان رجل مطافئ أو مسعف طبي تم استدعاؤه لإنقاذ حياتها؛ فـquot;النار ولا العارquot;.