عبدالله بشارة
تتعرض ساحة الاعتدال الإقليمي إلى غارات عنيفة من التجمعات المتطرفة ومن الأحزاب المزايدة ومن الذين يسعون لتسويق دبلوماسية المواجهة مستغلين انحسار الصلابة في الموقف الأمريكي الذي بشر به الرئيس أوباما، ومستفيدين من تموجات الإحباط التي تلازم فريق السلطة الفلسطينية في مواجهة الغلو الإسرائيلي اليميني، وعازمين على توظيف السخط العام تجاه الجمود من أجل التشكيك في منطق الفكر المعتدل، واستنفار الغاضبين من منظمات فلسطينية ومن أحزاب عراقية خاب أملها في حصيلة الانتخابات الأخيرة، وكذلك من تجديد التصلب في السياسة الإيرانية تجاه الدول الغربية التي تعمل للاتفاق مع كل من روسيا والصين على لائحة عقوبات شرسة يفرضها مجلس الأمن على إيران.
وتهدف استراتيجية المتطرفين من دول وأحزاب وتجمعات إلى محاصرة قوى الاعتدال الإقليمي، والتشهير بمواقفها والسخرية من اعتدالها وتوبيخ نهجها، مع حشد أكبر عدد من المناكفين الذين يرمون الاعتدال بمصداقيته ويسفهون نواياه ويسخرون من حصيلته، وبالإمكان رصد ذلك بيسر عندما نتابع تصريحات وبيانات حزب الله في لبنان واستعراضات القيادة الإيرانية في وجه المتفائلين المعتدلين ونشاطها في توجيه الدعوات لعقد لقاءات في طهران، سواء للتأثير على واقع العراق أو من أجل التنديد بالمساعي التي تديرها أمريكا للتعامل مع البرنامج النووي الإيراني، وأبرز تلك الخطوات دعوة إيران لمؤتمر نزع السلاح النووي يعقد في طهران وبمباركة إيرانية ومشاركة قوى موالية ومتفاعلة مع النهج الإيراني.
ونلاحظ بأن التطرف الإقليمي وليد التطرف والغلاظة الوطنية، داخل دول الإقليم، وينبع نشاط المبالغات الإقليمية في الخصومات والعداوات من مشارب محلية تغذي المجرى الإقليمي العام، وهي الفروع الحية التي تستقوي بها تيار المواجهة التي تعمل دولة مثل إيران على تفعيله ومضاعفة تأثيره.
لفت نظري الحدة التي فجرتها مناقشة مجلس الأمة الكويتي للقضية الفلسطينية والتي تسيدتها مفردات المواجهة ومصطلحات المزايدة وتسللت إليها تسفيهات موجهة للمتمسكين بنهج المفاوضات، ورغم أن الجو العام في الكويت لا يميل إلى الانزلاق نحو المزايدة في هذه القضية غير أن الناتج العام لتلك المداولات البرلمانية جاءت لصالح جماعة غزة وحزب الله، ولم تجد في نهج أبو مازن مجالاً للمؤازرة.
هنا يأتي دور الحكومات والقيادات المسؤولة في حكومات الاعتدال في تفعيل حيوية الفكر العاقل وإثراء ثقافة التسامح وتعزيز الأداء الواقعي في معالجة القضايا الأمنية والمحلية، فمسيرة الشعوب هي رحلة طويلة ومستمرة تستدعي التجديد، وتأصيل فوائد التسامح والحوار وسعة الصدر، وليس المطلوب الحصول على إجماع شعبي دائم، فذلك من مستحيلات الحياة، وإنما المهم الحفاظ على مؤازرة القوى القادرة على الإسهام والعطاء في تنمية الاعتدال الداخلي وتهميش التطرف المحلي الذي تتلقفه القوى الخارجية الإقليمية وتستغله لصالحها.
كما لفت نظري قرار مجلس الوزراء الكويتي باتخاذ إجراءات مضادة لمن يسيء للوحدة الوطنية، والواقع أن ساحة الكويت السياسية مثار تعليقات واستغرابات محلية وخارجية في خروجها عن المألوف في أدب الحوار وفي تماديها في تسخير التعبيرات السوقية في الحوارات البرلمانية وفي التعليقات الصحفية والتلفزيونية.
ونتفهم الضيق الشعبي ضد الإسفاف اللفظي البرلماني، الذي لم يأت من فراغ وإنما جاء من حالة تردي ورخاوة فريدة في تطبيق القانون وفي حمايته ووقايته من العبث، ومن البديهيات أن نكرر بأن الأمم تنهض بتعظيم القانون وباحترام بنوده، وبالالتزام بتبعياته، ولا توجد ديموقراطية دون سيادة القانون، فهما لا ينفصلان، فإذا كان العبث بالقانون رفيق الاستبداد، فإن العدالة روح النهج البرلماني، فلا يوجد ولاء وطني دون مساواة ولا عطاء مع القهر، وأخطر ما يفرزه أسلوب التراخي هو التحريض وبث الكراهية، ولن تنجح إجراءات حماية الوحدة الوطنية، التي تريدها الحكومة دون وقف كامل ونهائي للتحريض، ولا نتجاهل واقع الكويت المملوء بأجواء التحريض الموجه ضد الحكومة في تجمعات جماهيرية تستفز وتبتز، وقد رافقت مداولات الخصخصة داخل البرلمان الكويتي موجات من التحريض ضد التجار التقليديين وضد القطاع الخاص مع اتهامات في الذمة وفي الوطنية، ويصل التحريض إلى المنتديات وإلى محطات التلفزيون الفضائية الخاصة، مستضيفة أصحاب الأجندات السياسية والانتخابية، كل ذلك يدور والحكومة تستجير بحسن النوايا، بدلا من أن تجادل وتناقش وترد على الاتهامات وتمارس حقها في تجنيد الكفاءات القادرة على الحوار لإبراز الحقائق.
وأبرز معضلات التخبط الحكومي تتعلق بما يثار عن ازدواجية الجنسية، وهو موضوع ما كان يجب أن يطفح على سطح السياسة، لأنها تزيده تعقيدا وتفتح من خلاله منافذ التمحور والانشقاق والفزعة والاستنجاد، مع أن القانون واضح لا زعل من تطبيقه على الجميع، بصرف النظر عن لون جواز السفر الإضافي سواء كان مصدره أوروبا أو أمريكا أو الخليج وضواحي مدنه، كما كان يجب التصدي لمن يتسلح به، لطبيعته الناسفة للتآلف الوطني الذي نحرص عليه.
ونلاحظ بأن التطرف الإقليمي والوطني لا يعدم اللجوء إلى كل وسيلة للفوز بمساعيه، فهناك هجمة مدبرة للاغتيال السياسي يتعرض لها الرئيس أبومازن ليس فقط من أوساط اجتماعية وإنما من قوى إقليمية مساندة لها لا تعبأ بمعاني الردع الأخلاقي والمعنوي، وهي قوى معادية لا يقدر عليها أبو مازن بمفرده وأمله بأن تنتصر له العقلانية الإقليمية والدولية.
والحقيقة أن قوى التطرف الإقليمي والوطني تستند في معظم حالاتها وفي مبادراتها على غياب الجرأة من قبل المعتدلين وامتثالهم للخجل الموروث والحياء المرافق في اتصالاتهم مع قوى الاعتدال وعلى حرص هذه القوى على قواعد الاستقرار، تاركين ساحة الصخب والتشكيك والمناوشات للآخرين الذين استغلوا التسامح لتصعيد حملاتهم وزيادة مناكفاتهم لتلويث ما يملكه الاخرون من رصيد شعبي وسياسي.
ودون الولاء للقانون لا ديموقراطية ولا استقرار.
التعليقات