بغداد - سليم الحسني


في منتصف التسعينات برزت في العراق ظاهرة حملت اسم المرجع الديني محمد صادق الصدر. لم يكن وقتها بمقدور أي طرف أن يتنبأ بأن لهذه الظاهرة موعد مع المستقبل تكون فيه الأكثر تأثيرا على الساحة العراقية.

لم تكن علاقة المرجع الجماهيري الذي لمع من خلال منبر الجمعة، جيدة مع غيره من مراجع الدين في العراق. لقد كان ينتهج طريقة خصوصا في التعامل مع الجماهير، ويستخدم نبرة غير مألوفة في خطبه التي يحضرها الملايين من جميع مناطق الجنوب والوسط الى مسجد الكوفة التاريخي. وفي أجواء التنافس التقليدي بين المراجع الشيعية، فان الصدر واجه معارضة وتشكيكا من قبل المجلس الأعلى بزعامة المرحوم السيد محمد باقر الحكيم. كما أن الوسط الإيراني لم يرحب ببروز هذه الظاهرة، وبادلها التشكيك. بل أن الأجهزة الإيرانية أقدمت على خطوة أثارت استياء العراقيين عندما تعاملت بطريقة غير لائقة مع ممثله السيد جعفر الصدر، الذي أوفده ليقيم في مدينة قم ممثلا عنه. لكن المخابرات الإيرانية اقتحمت منزله بطريقة استفزازية، في إشارة الى أنه غير مرغوب فيه لأن يكون ممثلا لمرجعية في النجف.
في العام 1998 أنهى صدام حسين هذه الظاهرة باغتيال محمد الصدر واثنين من أبنائه في النجف. وشن حملة مطاردة لأنصاره ومريديه، فلجأ عشرات الآلاف منهم الى إيران، في ظروف معيشية صعبة، وبات ينظر إليهم على أنهم فلول متناثرة لا أهمية لها. وقد كانت علاقتهم متأزمة مع المجلس الأعلى وآل الحكيم تحديدا، لكن قدرا من العلاقة الطيبة ربطهم بحزب الدعوة بحكم الموروث التاريخي بينهم وبين مؤسس الحزب محمد باقر الصدر، الذي يعرف باسم laquo;الشهيد الصدر الأولraquo; لتمييزه عن laquo;الشهيد الصدر الثانيraquo;.

لا أحد يعرف المستقبل
تعاملت إيران بطريقة غير مريحة، من الناحية القانونية والإدارية، مع العراقيين المقيمين على أراضيها، وخصوصا أنصار الصدر الثاني. كانت تنظر إليهم على أنهم عناصر laquo;غير منضبطةraquo;. ولم يكن لهؤلاء جهة ترعاهم: فقادة المعارضة الإسلامية نأوا بأنفسهم عن احتضانهم، إما بسبب حسابات الولاء المرجعي، أو بسبب الإرهاق لطول فترة المعارضة. كانت ثمة علاقة بسيطة بين السيد جعفر الصدر وقياديي وأفراد حزب الدعوة. وكانت هناك رعاية بسيطة محدودة لبعض أنصار الصدر، لكنها لم تصل الى مستوى التبني والاحتضان. أما المجلس الأعلى فقد حسم أمره برفضهم والنظر إليهم نظرة الخصومة. وطوال خمس سنوات ظلت هذه الجماهير الواسعة في الداخل والخارج مخفية عن المرصد السياسي، لا تدخل في اعتبارات المساومات والتخطيط، فيما كانت الأيام تختزن لهم مستقبلا يصنع الحدث والموقف والمسار.

مارد لا يعرف الحدود
بعد سقوط نظام صدام، استطاعت هذه الجماهير الضائعة التجمع والإلتفاف حول السيد مقتدى الصدر، الابن الوحيد الذي بقي على قيد الحياة من أبناء المرجع محمد صادق الصدر. ساهم الولاء غير المحدود من أنصاره في زيادة قوته وتأثيرها. فقد ورث تأثير والده وقدسيته في نفوس مريديه.
لم يحظ التيار الصدري باهتمام النخب السياسية العائدة الى العراق من ساحات الهجرة. فقد انشغلت هذه القوى بتنظيم شؤونها الداخلية، وبدأت تبحث عن موطئ قدم في العراق الجديد، يدفعها التنافس الى النظر صوب القرار الأميركي والحاكم المدني العام، فيما كان التيار الصدري يجمع أنصاره ويهتم ببناء قواعده بعيدا عن تنافس السياسيين وحساباتهم الخاصة. بدأ يسير ببوصلة خاصة تؤشر على عكس اتجاههم. وقد كان لدعوته الصارخة laquo;خروج المحتل وترك الشعب يقرر مصيرهraquo; أثرها في تخويف الكتل السياسية من التقرب منه، حتى لا يزعجوا واشنطن.

جيش المهدي
وضعت الكتل السياسية التيار الصدري في تصنيف خاص، فمن جهة أرادت أن تقيم معه علاقة محدودة للاستفادة من سعته الجماهيرية. ومن جهة ثانية كانت تخشى التقرب منه مراعاة للموقف الأميركي. أما فكرة التحالف معه فقد بدت صعبة تنطوي على مخاطر كثيرة، خصوصا بعد أن برزت أزمات حادة بين التيار الصدري والمجلس الأعلى وصلت الى حد الاقتتال والتخريب. وتوسعت الأزمة لتنفجر بين الصدريين والمرجعية العليا بزعامة آية الله السيد علي السيستاني. وكان التطور الأخير بمثابة رسالة الى الكيانات الإسلامية لتلتزم الحذر من الصدريين.
وسط هذه المواقف، فاجأ مقتدى الصدر الجميع بالإعلان عن تشكيل ميليشيا مسلحة أطلق عليها اسم laquo;جيش المهديraquo;، وحدد هدفها بـ laquo;تحرير العراق من الاحتلالraquo;. وفي غضون أيام قليلة انخرط عشرات الآلاف في هذا الجيش، ليتحول الى قوة مسلحة مؤثرة، فلم يكونوا بحاجة الى تدريب، بعد أن تكفلت الحروب في زمن صدام بذلك.
تعالت المطالبة بحل جيش المهدي، لكن الصدر أصر على إبقائه، وأعلن أن قرار الحل أصبح في يد المرجعية الدينية بزعامة السيستاني! هنا بدأ الزعيم الشاب، يستخدم أدوات السياسة بذكاء. لقد أدرك أن جماهيره العريضة لها كلمتها، وبدأت تتحول الى رقم مؤثر في مسار العملية السياسية. والغريب أن رجال السياسة حتى تلك الفترة وهي عام 2004، لم يتنبهوا الى مستقبل هذا التيار وأوراقه الرابحة. فقد خضعت حكومة إياد علاوي لقرار القيادة الأميركية بمهاجمة النجف لسحق جيش المهدي، في معركة طويلة خرج منها الصدر مجروحا عسكريا لكن منتصر سياسيا، فيما خرج علاوي بشرخ يصعب معالجته مع الصدريين والشيعة عموما.

مسعى الجعفري
تنبه إبراهيم الجعفري، رئيس الوزراء عام 2005، الى أهمية التيار، فبادر الى مد جسور مع زعيمه، وتعضيدها بسرعة. ولاقى هذا المسعى رضا الصدريين الذين اعتبروه نصيرا لهم. كما أن الأميركيين أعجبتهم خطوة الجعفري، باعتباره تمكن من إبعاد الصدريين عن العمل المسلح، وإدخالهم في العملية السياسية.
أعاد الصدريون الجميل للجعفري خلال أزمة ترشحه لرئاسة الوزراء عام 2006، حيث كان كفاحهم مريرا من أجل دعمه في مواجهة رفض الأطراف الأخرى

مواقف متحولة
كنت حاضرا الحوارات التي تدور في مكتب الجعفري في أزمة رئاسة الوزراء، وشهدت كيف كان قادة التيار الصدري يبذلون جهودهم من أجل تثبت نتائج انتخابات الائتلاف الوطني العراقي والتي أفرزت فوزه كمرشح لتولي رئاسة الوزراء. وكان مما عرضه الصدريون على الجعفري laquo;تسيير تظاهرات مليونية تطالب به رئيسا للحكومةraquo;. لكن الجعفري رفض زج الشعب في القضية، واكتفى أن نصح بدعم نوري المالكي.
استجاب التيار الصدري لطلبه، وأوصلوا المالكي الى رئاسة الحكومة، وبدأوا مرحلة تتسم بالانسجام، بل انهم بادروا الى تقديم أكبر خدمة سياسية شهدتها العملية السياسية بعد سقوط صدام، حين انسحب الوزراء الصدريون من الحكومة، لإتاحة الفرصة أمام المالكي للخروج من المحاصصة الطائفية.
بعد أسابيع قليلة قابل المالكي خطوة الصدر برزمة من قرارات الاعتقال بحق أنصار الصدر في بغداد والبصرة ومدن أخرى، فشعر الصدر بأنه مهدد بالاعتقال فقرر اللجوء الى إيران.
ومع ذلك، طلب قياديو التيار الصدري من المالكي أن يزودهم بأسماء غير المرغوب فيهم من جيش المهدي ليقوموا بأنفسهم بتسليمهم الى السلطات، من أجل منع تأزيم العلاقة. لكن الطلب قوبل بالرفض، وسيرت الحكومة حملة عسكرية باتجاه البصرة باسم laquo;صولة الفرسانraquo; بصورة مستعجلة. حتى أن المالكي أوشك أن يقع أسيرا بأيدي مقاتلي جيش المهدي لولا توجيه نداء استغاثة للطيران البريطاني والقوات الأميركية لفك الحصار عن مقره. كذلك، وبينما كانت القوات الحكومية تحاصر مدينة الصدر، معقل التيار الصدري في بغداد، كان الصدر يكرر النداء تلو الآخر بوجوب عدم اللجوء للسلاح.

نصر عسكري وخسارة سياسية
قبل أسبوعين، لخص مقتدى الصدر مآل الأمور بينه والمالكي، فقال: laquo;كان يتصور أنه يستطيع البقاء في السلطة من دون دعم التيار الصدري، ليجرب الآن ذلكraquo;.
هذا الموقف يشير الى أن الفجوة بين الطرفين لم يعد بالإمكان ردمها. فقد تحولت الى ثأر سياسي لمواجهة عسكرية، لقد حسم المالكي نصره العسكري، لكن الأصوات البرلمانية التي يمتلكها الصدريون جعلتهم يقررون حسمها سياسيا.
بعث المالكي بوفد الى إيران لمقابلة الصدر مطلع الشهر الجاري، لكن الأخير رفض مقابلة الوفد، كما رفض عرضا قدمه المالكي بإطلاق سراح أنصاره المعتقلين مقابل أن يدعم ترشحه لرئاسة الوزراء.
مصادر مطلعة تؤكد لــ laquo;القبسraquo; أن مفاوضات الائتلاف الوطني وائتلاف دولة القانون بزعامة المالكي، تصطدم بموقف متشدد من التيار الصدري، الذي يصر على تحديد اسم رئيس الوزراء المقبل قبل التوقيع على أي اتفاق، ويعتبرون أن ترشيح المالكي يعني عدم الاتفاق مع دولة القانون بأي شكل من الأشكال.
لقد انتظر الصدريون اللحظة الحاسمة التي يثأرون فيها لهزيمتهم العسكرية. وقد نجحوا في اختيار هذه اللحظة، فلجأوا للسياسة ولقضية مستقبل رئيس الوزراء.