سعيد حارب


كل الدلائل تشير إلى أن الانتخابات الأخيرة في السودان ستكون آخر انتخابات في السودان قبل الانقسام إلى دولتين إحداهما في الشمال والأخرى في الجنوب، وهذا التوقع مما لا يتمناه معظم السودانيين خاصة والعرب بصفة عامة، لكن الدلائل تشير كذلك أن هناك قوى لا تريد لهذا البلد المترامي الأطراف أن يبقى موحدا، فمصلحتها أن ينقسم السودان، والمشكلة ليست في المؤامرات الخارجية وحدها، بل في وجود البيئة التي يسرت لهذه المؤامرات أن تجد لها أرضا laquo;تلعبraquo; فيها، فالسودان منذ استقلاله لم يشهد استقرارا داخليا، فهو بين صراع في الجنوب وآخر في الغرب، وثالث في الشرق، بالإضافة للصراعات والانقلابات في قلب العاصمة الخرطوم، وبعيدا عن تحميل أي طرف لمسؤولية ذلك، فإن التقسيم -إن وقع- سيتحمل الجميع داخل السودان وخارجه مسؤوليته، فعلى المستوى الداخلي، يبدو أن أهل الشمال قد laquo;نفضواraquo; أيديهم من الجنوب الذي أصبح مصدر صداع على مدى أكثر من ثلاثين سنة، وأنه آن الأوان لحل هذه المشكلة بالتراضي، فإما الاستمرار بالتراضي، أو الفراق بالتراضي كذلك، وهذا ما أدت إليه اتفاقية laquo;نيفاشاraquo; بين الطرفين، ورغم أن السنوات التي تلت هذه الاتفاقية لم تكن laquo;عسلاraquo; بين الشريكين، لكنها أدت إلى استقرار الجنوب بصفة عامة، وأدخلت القادة الجنوبيين إلى أروقة الدولة في الخرطوم بدأ من نائب رئيس وحتى المشاركة في الوظائف العامة، لكن مشاركتهم لم تكن مشاركة من يستمر، وإنما كانت للوصول إلى المرحلة التالية التي كان من بينها إجراء الانتخابات العامة والرئاسية والولائية، وقد بدا أن الجنوبيين سيكونون طرفا مهما في هذه الانتخابات، لكن ما تم بعد ذلك كشف عن اتجاه الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهي التكتل الأكبر لتمثيل الجنوبيين اختارت التركيز على الجنوب في هذه الانتخابات، فرئيسها سلفا كير مايارديت كير لم يدخل منافسا للرئيس السوداني عمر البشير، وإنما اتجه لترشيح نفسه في الجنوب باعتباره الرئيس الفعلي والمستقبلي له، وترك مهمة منافسة البشير لمساعدة laquo;الشماليraquo; ياسر عرمان، لكن سريعا ما انسحب عرمان من الانتخابات، مما يشير إلى أن الحركة لا تريد أن laquo;تتورطraquo; في أي مسؤولية في الشمال، ورغم أن فرص ياسر عرمان في منافسة البشير كانت محدودة، فإن انسحابه أعطى مؤشرا أن الجنوبيين لن يكونوا في الخرطوم في المرحلة القادمة!!، وحتى في انتخابات البرلمان فإن دخول الجنوبيين كان لتنفيذ بند في اتفاقية laquo;نيفاشاraquo; الذي يلزم الجبهة بذلك، لأن البديل سيكون إلغاء الاستفتاء على حق تقرير المصير للجنوبيين في العام القادم إذا لم يشارك الجنوبيون، وتبدوا ملامح التقسيم من نتائج الانتخابات التي كرست حضور كل طرف في إقليمه، فالجنوبيون سيطروا على معظم المسؤوليات في إقليمهم، وكذا فعل الشماليون، بل إن خطوات التقسيم بدأت مباشرة بعد الانتخابات، فقد بدأت اللجنة الفنية لترسم الحدود بين شمالي السودان وجنوبيه عملها التنفيذي على الأرض، وشرعت في المسح الجوي والأرضي حسب ما أعلن رئيسها عبدالله الصادق، الذي قال إنه تم اختيار الحدود بين ولايتي سنار والنيل الأزرق مع ولاية أعالي النيل لبدء عمل اللجنة، الذي يجرى تنفيذا لبنود اتفاقية السلام الشامل الموقعة بين الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان، لكن يبدو أن المشكلة لن تنتهي عند رسم الحدود، بل ستستمر بعد التقسيم فمنطقة laquo;أبييraquo; الغنية بالنفط، والمتنازع عليها لم يحسم أمرها، حتى من محكمة العدل الدولية التي قضت بإعادة رسم الحدود في هذه المنطقة دون أن تحكم فيها، مما يدل على أنها ستبقى laquo;مسمار جحاraquo; لكلا الإقليمين، سواء تم التقسيم، أم بقي السودان موحدا، وإذا كان هذا ما أفرزته الانتخابات السودانية والتي تشير كل دلائله إلى أن السودان يتجه إلى التقسيم، فإن تأثير القوى الخارجية لا يمكن إغفاله، فقد هيئت الولايات المتحدة الرأي العام للقبول بهذا التقسيم، فقد دعا الموفد الأميركي للسودان laquo;سكوت غرايشنraquo; على القبول الهادئ!! إذا جاءت نتيجة الاستفتاء بتقسيم السودان، بل إن المراقبين يشيرون إلى تراجع الضغوط على السودان في أكثر من قضية، ومن بينها قضية دارفور، لا يعود إلى تغير الإدارة الأميركية ومجيء الرئيس laquo;أوباماraquo;، وإنما مرجع ذلك إلى رغبة أميركا في الوصول إلى النتيجة المتوقعة من الاستفتاء، وحتى لا تؤدي الضغوط على حكومة الخرطوم إلى تراجعها عن الاستفتاء!!، أما laquo;إسرائيلraquo; فلا تخفي اهتمامها laquo;غير المعلنraquo; بجنوب السودان، وعملها على مساعدة الجنوبيين خلال قتالهم مع الشمال، منذ ما قيل عن زيارة الرئيس الراحل الحركة الشعبية لتحرير جنوب السودان laquo;جون قرنقraquo; لإسرائيل عام 1995، وفي حديث لوزير الأمن الإسرائيلي الأسبق laquo;أفي دخترraquo; في معهد الأمن laquo;الإسرائيليraquo; في 4 سبتمبر 2008 قال laquo;إن اعتقاد الأمن الإسرائيلي منذ أيام laquo;بن جوريونraquo; أن السودان والعراق جزء من الطوق الجغرافي المحيط بإسرائيلraquo; وأنها رأت التغلغل عن طريق عملاء محليين أو حلفاء دوليين، وأن ذلك أدي على زعزعة الاستقرار بصورة جيدة في جنوب السودان وفي الأجزاء الغربية والشرقية من السودان، وزعزعة استقرار السودان هدف استراتيجي لـ laquo;إسرائيلraquo;، وقال: إن حلفاء laquo;إسرائيلraquo; دمروا نظام العراق بعد قيادة أميركا لغزو العراق عام 2003، وإن تدمير السودان يمكن تحقيقه باستمرار الأزمة في دارفور والجنوبraquo;.
إن العرب هم الخاسر الأكبر في انفصال السودان إلى دولتين وربما تكون دارفور دولة ثالثة، إذا بقي العرب يتفرجون على ما يجري في السودان، فدولة في جنوب السودان تعني نصيبا من ماء النيل، وسيكون ذلك على حساب مصر والسودان، لكن الأخطر من ذلك أن الجنوب سيصبح خنجرا جديدا في خاصرة العرب، وأن السودانيين بخاصة والعرب عامة سيكتشفون أنهم تخلصوا من مشكلة واحدة، ليواجهوا عشرات المشكلات، فهل يتدارك السودانيون والعرب ما بقي من الوقت ليحولوا دون تقسيم السودان، حتى لا تكون هذه الانتخابات آخر انتخابات في السودان الموحد.. أتمنى ذلك!