يوسف الكويليت

ترتعش الأنامل، وهي تكتب مقالة يرى كاتبها أن ألف عين وأنف تراقبه مع كل حرف ونقطة وعلامة تعجب، ويتلعثم اللسان عند إلقاء خطبة في حشد ما أو محاضرة، أو حوار مباشر على الهواء لأن أي هفوة عند زوار الفجر قد تجرك من موقعك للسجن، وكانت تلك السلطات التي طالما رفعت شعار الحرية والتحرر، هي من ألغت الصحافة، والبرلمانات وأممت الممتلكات، وحولت الضابط نصف الأمي إلى مدير مصنع وبنك، أو شركة إنتاج، وجاء شحن الفلاحين والطلبة ونشرهم في المطارات والطرق لاستقبال الزعيم أو ضيوفه رمزاً للوطنية والالتزام بمبادئ الانقلابات..

ومع إعلان أول بيان أذاعته الإذاعة بإزالة حكم واستبداله بآخر فقد العالم العربي حريته ، وقد ظلت النشوة المجنونة طيلة عدة عقود هي الرسالة حين عُبئت العقول وغسلت الأدمغة بالانتصارات الهائلة ، وجاء زمن الفلاحين والعمال لينتصروا على الرأسماليين والامبرياليين وأعداء الشعب، غير أن هذا الطعام الذي هضمته عدة أجيال ضاع مع حالات الإفلاس والهزائم العسكرية، وانتشار البطالة، وتوسيع السجون، والهجرات المستمرة..

تستعرض تلك المرحلة كشاهد ومخدوع، وتنظر للعواقب المستجدة التي جعلت الوضع الراهن هو النتيجة أي أن المبشرين بالعدالة والحرية هم من سقطوا بفعل أحادية الفكر وإملائه وفرضه، وقد اقتنعت الأجيال اللاحقة أن المشروع العربي بني على الأوهام ولذلك فشل، ليكون البديل أكبر قسوة، حروباً أهلية ومدوّلة ، وإفلاساً على كل المستويات ثم العودة إلى الماضي كمنقذ وبديل، وهي حالة الإفلاس التي خلقت الأصوليات ، وبعثت روح التنازع بين الأقليات، ثم البحث عن استقلال أو انشطار عن الوطن الأم فعشنا ونحن نبحث عن واقع جديد يعيد جدولة الوطنية التي تتعايش فيها كل الأثنيات والقوميات والمذاهب، ولكن الصورة غير زاهية، لأن الفصل الجديد من المشكلة بدأ ولن ينتهي..

فالمحيط الذي يطوّق الوطن العربي يعيش حالة تفوق عسكري واقتصادي عندما تحولت تركيا من نظام شبه شوفيني يديره العسكر، إلى دولة ديمقراطية تتقدم في كل المجالات، وقد عادت لمحيطها العربي والإسلامي كمعوّض عن سنوات القطيعة، وهي أقرب الدول للتعامل معها بدون رهبة، لأن طروحاتها حضارية ومصلحية في آن واحد، بينما إسرائيل تحولت إلى ثكنة عسكرية أنهت أسطورة من يريدون رميها في البحر، وصارت رمزاً لصياغة هذه الأمة بصنع الأزمات أو تجميدها وفقاً لمصالحها، وصار محيطها في مرمى أسلحتها، وحتى مصر التي وقعت معها اتفاقية سلام، ذهبت إلى دول مصب النيل لتخلق مشكلة المحاصصة، لأن مصر رفضت بيعها فائضها المائي..

وتبقى إيران رأس حربة أخرى بمطامعها التي لا تخفيها بإعادة الامبراطورية الفارسية، وهذه المرة بكبرياء الدولة المعسكرة اقتصادياً وشعبياً، وقد واصلت خلافاتها مع كل دولة في المشرق والمغرب، وأصبحت تسيّر بعوثها ومبشريها في آسيا الوسطى وأفريقيا من أجل وهم بناء الدولة العظمى التي يقودها المذهب الواحد، وكل هذا وأمتنا لاتزال بلا غطاء أمني، ولا وحدة اقتصادية، وكأننا نعيش دويلات الطوائف في الأندلس، ونعيد تكرارها..