حسن أبو طالب

laquo;رضينا بالهم والهم مش راضي بيناraquo;، هكذا وصف الأنبا بيشوي، وهو الرجل القوي والثاني في الكنيسة الأرثوذكسية والمقرب من البابا شنودة رأس الكنيسة في أحد حواراته مع صحيفة مصرية مستقلة أخيراً حال الأقباط المصريين في اللحظة الجارية. كان سياق الحديث يتحدث عن هؤلاء المسيحيين الذين اعتنقوا الإسلام، ثم أرادوا العودة مرة أخرى إلى المسيحية، وتتكدس قضاياهم في المحاكم، بحسب وصفه، من دون حل.

تعبير الرضى بالهم وفي الآن نفسه عدم رضى الهم عن قبولنا به، شائع مصرياً في لحظة الشعور بالظلم الممزوج بالإحباط وقليل من اليأس. وحين يقوله رجل دين بحجم الأنبا بيشوي الذي يرشحه كثيرون ليكون خليفة للبابا شنودة، فإنه يعكس درجة رفض الواقع الذي يعيشه الأقباط. هذا الواقع الذي يحلو لبعض الناشطين من أقباط المهجر تحديداً أن يصفوه بالاضطهاد والتمييز وما يلحقه من استبعاد وتهميش وإقصاء. فهم يقولون ان الأقباط أقلية مضطهَدة والدولة بأسرها تعاديهم والمجتمع يلفظهم والمؤسسات الدينية تحرض المسلمين عليهم، ولذلك فهم يحتاجون الى من يرفع صوتهم في المحافل الدولية. فمن وجهة نظرهم أن على العالم ان يتدخل ويضغط على مصر، ما دام انها ملتزمة بالقوانين الدولية واتفاقات حقوق الإنسان، من اجل أن تعامل أبناءها من الأقباط بحكمة وعدل. ولما كان العالم ومؤسساته المعنية لم تصل بعد إلى حد الاقتناع بأن الدولة المصرية لا تضطهد الأقباط منهجياً ولا قانونياً، فلا بد إذن أن يأتي من يمثل الأقباط ويرفع صوتهم، ويقنع العالم بأنهم أصحاب حق مهضوم وضائع.

مثل هذا المنطق المبسط رأيناه أخيراً في ما سمي بجهود إعلان laquo;برلمان دولي للأقباطraquo; كي يدافع عن حقوق أقباط الداخل، بل وأقباط العالم كله في المحافل الدولية في مواجهة الحكومة المصرية.

قصة أقباط المهجر المصريين قصة طويلة، وما يعنينا منها الآن أن بعض الناشطين منهم في الولايات المتحدة والبلدان الأوروبية، والذين تحالفوا مع الكنيسة الأرثوذكسية في مرحلة سابقة، واعتبروا أنفسهم امتداداً للكنيسة في الخارج للضغط على الحكومة المصرية من أجل حل مشكلات الأقباط اليومية وغير اليومية، هم الذين لعبوا دوراً كبيراً في تأليب إدارة الرئيس بوش الإبن وجماعات الحقوق المدنية الأميركية والأوروبية ضد مصر الدولة والمجتمع والمؤسسات الإسلامية فيها، وبات بعضهم الآن اكثر انتقاداً للكنيسة ولدورها السياسي القاصر من وجهة نظرهم، بل والمتراجع عن حماية الأقباط، وباتوا يروجون للبحث عمن يمثل الأقباط في الداخل وفي الخارج معاً. والبعض يسعى إلى وضع القضية القبطية دائماً على جدول أعمال العديد من المنظمات التابعة للأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، كقضية أقلية مضطهدة يجب مساعدتها للحصول على الخلاص من حكم ديكتاتوري!

بعض أشكال الخلاص التي عبر عنها ناشطون أقباط في الخارج وبعض رموز الكنيسة الأرثوذكسية في الداخل، تنحصر في إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى 1400 عام، وإنهاء حقبة طويلة من الاحتلال العربي من وجهة نظرهم، وطرد المسلمين المصريين إلى حيث جاءوا من الجزيرة العربية!! هكذا جاء تصور الحل الأبدي في محاضرة للأنبا توماس أسقف القوصية (جنوب مصر) في معهد هدسون الأميركي اليميني في تموز (يوليو) 2008، والتي أثارت جدلاً طويلاً في الداخل. وما كان من بعض رموز الكنيسة إلا أن وصفوا المحاضرة بأنها لا تتناقض مع وقائع التاريخ بحسب رواية الكنيسة. وللتذكير فقد انطوت هذه المحاضرة على أفكار مثيرة، منها أن ما يعتبره المسلمون فتحاً عربياً إسلامياً لمصر ليس سوى غزو ونهب واستيلاء على ثروات المصريين الحقيقية، أي الأقباط الذين احتفظوا بدينهم إلى الآن. والثانية أن المصريين الأصليين هم الذين احتفظوا بدينهم المسيحي ولم يتحولوا إلى دين آخر وباتت وجهتهم الجزيرة العربية، والثالثة أن أزمة مصر الحقيقية وأزمة الأقباط الكبرى هي في التعريب والأسلمة التي تسعى إلى فرض نفسها على الأقباط. وأن المطلوب هو الحفاظ على الهوية القبطية من خلال مواجهة الأسلمة والتعريب والأصولية التي تسيطر على القادة. وأخيراً أن الكنيسة ليست ضعيفة ولكنها قوية.

مثل هذا الحل laquo;العبقريraquo;، أي طرد المسلمين وإنهاء الاحتلال العربي لمصر، ومن ثم استعادة المكانة والمهابة والاستقلال بحسب كلمات الأنبا توماس، بات يتردد كثيراً في تحليلات بعض الناشطين ورجال الدين الأقباط، وهو ما يستفز حتماً مشاعر الغالبية المسلمة التي لا تعرف وطناً سوى مصر وأرضها ونيلها وشمسها الحارقة. وعلى رغم ما تواجهه من مصاعب في المشاركة السياسية والواقع الاقتصادي، فليست لديها النية لا من قريب ولا من بعيد أن تترك هذا الوطن بدعوى أن الجدود كانوا من الفاتحين العرب، أو أن دين هؤلاء الفاتحين أغرى البعض من أقباط مصر كي يصبحوا مسلمين مصريين.

أحد جوانب المشكلة في مصر كما يراها بعض الدارسين والناشطين المصريين هو أن الأقلية أحياناً تستبد برأيها ولا ترى إلا ما يحقق لها أهدافها، وكثيراً ما تتجاهل مشاعر الغالبية المسلمة من قضايا وأحداث جارية يتحمل فيها الأقباط القدر نفسه من المسؤولية التي يتحملها المسلمون. ويمكن للمرء أن يحصي الكثير والكثير من الحكايات والمواقف.

كثيرون يرون أنه اذا كانت للأقلية حقوق، فالأغلبية أيضاً لها حقوق ولا يجب الانتقاص منها أو اعتبارها أمراً عارضاً. وفي مناقشة عابرة مع مهتمين بالشأن الديني في مصر حول ما يوصف بالبيان التأسيسي لإنشاء laquo;برلمان عالمي للأقباطraquo;، تبلورت ملاحظات عدة أرى أن من المهم الإشارة إليها:

الأولى: أن هذا البرلمان بحسب ناشطين اقباط يعيشون في الداخل هو دعوة لتقسيم مصر ودعوة لتجذير الطائفية في التعامل مع هموم الاقباط. ويُذكر هنا أن عدداً كبيراً من رجال الدين والناشطين الأقباط في داخل مصر وفي خارجها رفضوا فكرة البرلمان القبطي وحذروا من التعاون معه باعتبار أن الداعي الى البرلمان القبطي انتحل شخصية الأقباط في كل مكان من دون سند، وأن فكرته تقوم على أساس طائفي وليس على أساس المواطنة.

الثانية: أن هناك حقوقاً للاغلبية لا يجب التهوين منها أو الاستخفاف بها، فبعض الأقباط يطالب مثلاً بالمواطنة ويعني بها بالأساس التخلي عن الشريعة كمصدر أساسي للتشريع كما هو وارد في الدستور، ويتناسى المعاني الكلية والجامعة لمفهوم المواطنة التي تعني في أبسط معانيها الحقوق المتساوية للجميع. ويتناسى ايضاً أن الغالبية المسلمة تؤمن بأن الشريعة تحقق المساواة والمواطنة ولا تنتقص منهما أبداًً.

الثالثة: يشعر كثير من المسلمين بأنهم يواجهون حالة تمييز لمصلحة الأقباط. انظر مثلاً إلى التظاهر الذي يحدث في الكنائس ولا يمكن للأمن أن يمنعه أو يوقفه أو يقبض على أي من المشاركين فيه وتوجيههم نحو النيابة العامة كما يقضي بذلك القانون الذي يحظر التجمعات في دور العبادة. في حين أنه لو حدث الأمر في أحد المساجد، لاعتقل الأمن كل من كان في المسجد، بل كل من كان حول المسجد.

الرابعة: يقول بعض الأغلبية المسلمة أن بعض محترفي النشاط العام من الأقباط في الخارج يتحدث عن الأقباط وكأنهم في أسفل الحياة في مصر، بينما يوجد منهم الأغنى والأكثر نفوذاً والأعلى صوتاً تماماً كما هو موجود بين المسلمين، فأين التمييز؟.

الخامسة: يعتقد مصريون مسلمون أن هؤلاء الذين يتباكون على أسلمة فتيات مسيحيات يفتعلون قضية وهمية لغرض في نفس يعقوب. لا سيما أن قصص الأسلمة هي في حقيقتها قصص ارتباط عاطفي طبيعي بين شاب وفتاة في عمر المراهقة لا أكثر ولا اقل. والافتعال نفسه في قضية بناء الكنائس، التي يروج بأن الدولة تمنع بناءها، في حين أن للكنيسة الأرثوذكسية أكثر من 3200 كنيسة في مختلف بقاع الوطن.

السادسة: يرى البعض أن الدولة تحابي الأقباط والكنيسة على حساب الغالبية المسلمة. أنظر مثلاً إلى زيارة أحمد عز، أمين التنظيم في الحزب الوطني الحاكم لرأس الكنيسة مطلع أيار (مايو) الجاري كي يطلعه ـ بحسب ما نشر في تقارير عدة ـ على أسماء مرشحين أقباط يرغب الحزب الحاكم في ترشيح بعضهم على قوائمه التي سيخوض بها انتخابات مجلس الشورى مطلع الشهر المقبل، وكي يحصل على دعم الكنيسة لهذه الخطوة، في حين أن لا أحد كبيراً أو صغيراً يذهب إلى الأزهر ـ وهو المعادل المؤسسي للكنيسة ـ مثلاً كي يحصل على مشورة أو تأييد أو بركة منه للمرشحين المسلمين.

السابعة: يقولون أيضاً إن الكنيسة تستقوي بالخارج وتناطح الدولة، والقصة الأشهر هنا هي قصة السيدة وفاء قسطنطين التي أعلنت إسلامها قبل سنوات عدة، ولكن الكنيسة دعت إلى التظاهرات في حرم الكنيسة وفي خارجها، ويومها وقف الأمن عاجزاً عن التدخل، بل أصيب بعض رجال الشرطة من الطوب والحجارة التي ألقاها شباب الأقباط من داخل الكنيسة، وانتهى الأمر بأن فرضت الكنيسة شروطها، وتسلمت السيدة وفاء، ولا أحد يعرف أين هي الآن، وهل ماتت في أحد الأديرة التي أجبرت على الدخول إليها، أم ما زالت حية ترزق، ولكن أين؟