علي حماده

بعودته الى لبنان عاد سعد الحريري الى قلب quot;الحرب البلدية الكونيةquot; التي تجري على مستوى البلديات. وما حادث ضهر العين المؤسف سوى احد معالمها حيث تتحول خلافات محلية صغيرة صداماً بين قوى سياسية معجونة بالعنف لا يرويها الشرب من دماء المواطنين العاديين الذين يساقون الى العنف بسهولة متناهية. وإلا فما معنى ان يتحول خلاف بين اهل منطقة واحدة، غالب الظن انهم اقرباء في شكل او آخر الى بركة دم؟ وما معنى ان يعلن زعيم يطمح الى منصب رئاسة الجمهورية انّه في حل من ضبط جماعاته (وهم مسلحون) في حال ارادوا الاخذ بالثأر، كأنه ينادي عليهم بـquot;شرب دمquot; الخصم؟ وفي نهاية اليوم تكون الانتخابات البلدية انتهت ويعود الناس الى العيش معا في القرى والبلدات، والارتواء بنفس الماء، وتنشّق الهواء نفسه، ويكون المواطن العادي دفع ضريبته من الدم، واما الزعماء فسنراهم سعداء بنفوذهم المحلي الذي يمنحهم قوة دفع الآخرين الى التخاصم لا بل الى التقاتل. هذا النفوذ يتأكد اليوم مرة جديدة في quot;الحرب البلدية الكونية quot;.

bull; bull; bull;

بالعودة الى رئيس الحكومة سعد الحريري الذي عاد قبل يومين من زيارة واشنطن ونيويورك، يخرج المراقب للزيارة المزدوجة في صورة جدية عن الدور الذي يضطلع به لبنان او يكاد في المرحلة التي اعقبت صدمة 2005 بين لبنان وسوريا. فإذا كان بعض المعلقين شبهوا سعد الحريري بوالده الرئيس رفيق الحريري من زاوية مكوكية تحركه الديبلوماسي من جهة، واتساع مروحة اتصالاته من جهة اخرى، فإن التشبيه لا يستَقيم تماما ما لم نتذكر ان الرئيس رفيق الحريري أدى خلال سنوات طويلة تبوأ فيها منصب رئيس الحكومة في لبنان، دور وزير خارجية سوريا ايضا في مرحلة واجهت في أثنائها سوريا ابوابا موصدة في العديد من العواصم. وكثيرا ما وصف الحريري الاب من خلال استغلاله علاقاته الواسعة في الخارج في سياق ايصال صوت دمشق الى الخارج بأنه كان هو وزير خارجية سوريا وليس فاروق الشرع الذي كانت تنقصه القدرة على التحرك الحر والسريع، فضلا عن الصلات الشخصية العميقة التي أرساها الحريري مع كبار العالم مما جعله يقيم علاقات صداقة شخصية تجاوزت الجانب الرسمي، في حين ان الديبلوماسية السورية خلال عهد الاسد الاب كانت متكلسة، اما في عهد الابن فلم تلتقط الفرصة الذهبية التي لاحت مع قيام الحريري بفتح ابواب اوروبا كلها دفعة واحدة امام وارث حافظ الاسد، من خلال استقبال الرئيس الفرنسي جاك شيراك الوارث قبل ان يرث في قصر الاليزيه، ثم مع تسلمه منصب الرئاسة. وبعد ذلك تتالت الاحداث في شكل سريع الى ان حصلت صدمة القرار 1559، ثم صدمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري.

bull; bull; bull;

في زيارته للولايات المتحدة ثم لمقر الامم المتحدة في نيويورك تصرف سعد الحريري بصفته رئيسا لحكومة كل لبنان، ولكن ما لفت انه تصرف ايضا كوزير خارجية لكل العرب. اولا من خلال قيامه بجولة عربية واسعة سبقت زيارة واشنطن ونيويورك، قادته الى الرياض ودمشق وعمان والقاهرة وانقره ليطلع على رأي حكوماتها ويحمل معه اضافة الى موقف بلاده موقفا عربيا جامعا مدعوما بموقف اقليمي (تركي) مما يمنحه قوة مضافة في لقائه والرئيس الاميركي وبقية المسؤولين في الادارة الاميركية، ولا سيما في ما خص مسألة التهديدات الاسرائيلية للبنان، والسلاح المتدفق عبر الحدود، والازمة النووية الايرانية.
كان خطاب الحريري خلال لقاءاته عربيا بامتياز، من خلال تشديده على فكرة ان حل الصراع العربي ndash; الاسرائيلي وحده ينتزع كل فتائل المنطقة. هذا هو الموقف الذي يجمع كل العرب على اختلاف توجهاتهم او قراءاتهم لتحالفاتهم الاقليمية. فما الفارق بين ما يطلبه السوريون وما يطلبه الفلسطينيون او السعوديون او المصريون؟ الكل يقول ما قاله الحريري في خطبه العلنية وفي الغرف المغلقة بأن طريق انهاء التوترات المستفحلة في المنطقة لا مهرب منه : انه فرض المجتمع الدولي بقيادة الولايات المتحدة تسوية نهائية للصراع الفلسطيني ndash; الاسرائيلي، وانسحاب الاسرائيليين من على الاراضي السورية واللبنانية المحتلة، لقاء سلام نصت عليه مبادرة السلام العربية التي تبقى الوثيقة العربية الوحيدة المطروحة على الطاولة. وهي تمثل استثمارا حقيقيا في الاستقرار الطويل الامد في منطقة الشرق الاوسط.
من خلال جولته العربية ndash; الاقليمية التي سبقت زيارته واشنطن ثم مقر الامم المتحدة في نيويورك، مثّل خطاب الحريري في بعده العربي خلاصة مواقف العواصم التي زارها. وحرص على تحويل عضوية لبنان غير الدائمة لمجلس الامن، وترؤسه اياه لشهر ايار مناسبة ليكون خطاب بلاد الارز خطابا يبدأ من بيروت وينتهي بأنقره مرورا بالرياض ودمشق والقاهرة وعمان.
في التسعينات من القرن الماضي اضطلع الحريري الاب بدور وزير خارجية سوريا، وكان في مقدوره ان يكون وزيرا لخارجية العرب ايضا لكنه بقي محاصرا بفعل الواقع الذي كان سائداً فمنعه من اخذ مداه. اما اليوم بعد تغير قوانين اللعبة فيضطلع الحريري الابن الدور بحرية اكبر ويجمع بين الحساسيات العربية المتنوعة ليقدمها تحت راية لبنان الوطن الذي يلتقى عنده العرب ويتقاطعون في ما بينهم ليستحق لقب وزير خارجية كل العرب.