مصطفى الفقي

لا أدعي ldquo;بدايةًrdquo; أن الحياة السياسية في مصر وردية وأنه ليس في الإمكان أبدع مما هو قائم، كما أنني شديد الإيمان بحق المعارضة في انتقاد أي نظام حكم والكشف عن أخطائه فتلك هي (ألف باء) الديمقراطية في الدولة الحديثة، ولكنني لاحظت في السنوات الأخيرة أن هناك خلطاً متعمداً بين المعارضة السياسية خارجية أو داخلية وبين محاولة العبث بمكانة مصر والمساس بهيبة الدولة فلقد تجاوز البعض حدود النقد المباح إلى التطاول المستباح . خصوصاً عندما يأتي الحديث عن دور مصر الخارجي أو مستقبل نظامها السياسي، وأنا ألفت النظر هنا إلى ما قد ينجم عن هذا الخلط من تداعيات تمس سلامة الوطن ومستقبل أجياله المقبلة، ونحن هنا لا نطلق أحكاماً عامة ولكننا ندخل في جوهر الموضوع الذي نطرحه من خلال القضايا الآتية:

* أولاً: أظن وليس كل الظن إثماً أن هناك استهدافاً قوياً لمكانة مصر ومحاولة مستميتة لتقزيم دورها تعتمد في ذلك على بعض الشواهد المرحلية لكي تقوم بعض القوى الإقليمية بعملية إحباط واسعة تردد أثناءها حديثاً مكرراً عن تراجع الدور المصري، وأنا أعترف هنا أن لدينا بالتأكيد قصوراً في عدد من الأولويات الحاكمة للمستقبل المصري، ولكنني أعود مباشرة لكي أقول إن ذلك لا يعني أن مصر جسد بلا روح أو فيل ضخم حبيس حجرة صغيرة كما ردد البعض، بل إنني أرى أن قضية الدور هي مسألة إرادية تبدو أكبر بكثير من مرحلة معينة أو فترة بذاتها، فالدور معطى تاريخي وجغرافي وبشري تلعب فيه عوامل الزمان والمكان والإنسان دوراً أساسياً لا يمكن القفز فوقه أو تجاهله تحت أي مسميات لأن الأمر أعمق من ذلك بكثير .

* ثانياً: شعرت كثيراً بقدر من الاستخفاف بالمصريين في بعض دول المنطقة والتحامل عليهم والربط بين أوضاعهم الحالية ومكانة بلدهم الإقليمية، وما أكثر الحوادث حتى ولو كانت فردية التي تؤكد ذلك وتشير إليه، فأصبحت النغمة المتداولة في التعامل مع المصريين لا تخلو دائماً من تيئيس ولا تبرأ أحياناً من تسطيح للمواقف والسياسات . وقد يأتي ذلك كله في سياق أسطوانة مشروخة تتحدث عن الشقيقة الكبرى ودورها الريادي، وحب العرب لها وحرصهم عليها وافتقادهم لدورها في هذه الظروف الصعبة .

* ثالثاً: عندما يأتي الحديث عن ldquo;مصرrdquo; يجري التركيز على السلبيات وهي كثيرة ويتم التجاهل الكامل للإيجابيات وهي موجودة أيضاً، فهناك محاولة انتقاء تحكمي لاختيار ما يسيء إلى مصر عموماً ونظامها السياسي خصوصاً، بغض النظر عن الإنجازات والتحولات والتطورات وفي ذلك ظلم حقيقي لمكانة مصر ووزنها الإقليمي . وأنا أظن هنا أن قناة الجزيرة -وهي بالمناسبة أفضل القنوات العربية من الناحيتين المهنية والفنية في رأيي على الأقل- إلا أنها تمضي في تنفيذ مشروعها الإعلامي الذي يسعى إلى تغيير مراكز القوى في العالم العربي لتحجيم الدول الكبيرة فهي لا تتحمس لأي إنجاز مصري ولا ترحب بنجاح أي دور سعودي، وتقوم بعملية اغتيال حقيقي للمعطيات التاريخية والحقائق الجغرافية وتمارس ذلك بحرفية واضحة وذكاء شديد، ولابد أن اعترف هنا أنني من أشد المتابعين لها منذ نشأتها، ولقد لاحظت أنها تسعى لنقل مراكز القوى العربية من القلب إلى الأطراف، ولا بأس في ذلك إذا كانت تدعمه عوامل تاريخية وجغرافية وبشرية تشكل مكون الحضارة وليس مجرد تراكم الثروة .

* رابعاً: إن تحميل مصر جميع خطايا المنطقة ومشكلات الشرق الأوسط هو أمر ينطوي على ظلم فادح، فمصر هي التي قسمت العالم العربي باتفاقيات ldquo;كامب ديفيدrdquo; وهي التي تحاصر غزة بإغلاق معبر رفح، وما بين الأمرين هي المسؤولة عن اجتياح ldquo;إسرائيلrdquo; للبنان عام 1982 وهي الشريك الضالع في السياسات الأمريكية بالمنطقة . . هكذا وبكل قسوة يجري اختزال الدور المصري في هذه الافتراءات إمعاناً في عزل مصر عن أمتها العربية والنيل من مكانتها الإقليمية والعبث بتضحياتها الضخمة وأدوارها عبر تاريخ المنطقة الحافل بالصراعات الدامية والحروب الطاحنة والسياسات المتداخلة، ولابد أن أعترف أن كثيراً من الأشقاء العرب ربما يرددون ذلك من منطلق حبهم لمصر ولكن نتيجة هذا الطرح في النهاية سلبية ومحبطة للغاية .

* خامساً: إننا نشعر أحياناً أن مصر الدولة المهابة تاريخياً تجري الآن محاولة تجريدها من معظم مزاياها بل تطويقها بدءاً من غزة وصولاً إلى دارفور مروراً باحتمالات تقسيم السودان وأزمة مياه النيل . وإذا كنا قد تعلمنا في العلاقات الدولية أن الحب والكراهية هما صفتان يمكن التعامل بهما على مستوى الأفراد، إلا أن المسألة تختلف بالنسبة للدول التي تتفاوت مكانتها نتيجة عوامل أخرى مثل الهيبة الإقليمية والاحترام الدولي والارتباط بمصالح لا تعرف بالضرورة المشاعر والعواطف التي هي أمور عابرة لا تشكل أهمية في العلاقات بين الدول، من هنا فإنني أظن أن الروابط العربية المتبادلة لا تكفي وحدها بل لابد من التركيز على المكانة الدولية للعرب وفي مقدمتهم الدول ذات التاريخ العريق والخبرة الطويلة والعنصر البشري المتميز .

* سادساً: إن الهجوم على نظام سياسي معين لا يبرر إطلاقاً المساس بالدولة التي ينتمي إليها ذلك النظام، ففي السياسة نتفق ونختلف، ولكننا لا نقوم بتشويه صورة دولة معينة ونحاول النيل من مكانتها، إذ إن هناك خيطاً رفيعاً يفصل بين انتقاد الحكومات وبين الإساءة للشعوب، وأشعر أحيانا أن ذلك الخيط الرفيع لا تجري مراعاته، وأن هناك الكثير مما يستهدف الدولة المصرية وينال من كبريائها ويسعى إلى إضعاف كيانها والربط بينها ظلماً وبين كيانات أخرى في المنطقة وخارجها .

* سابعاً: إن الدورين الإيراني والتركي في الشرق الوسط ليسا فقط خصماً من الدور المصري في المنطقة، بل إن دور جنوب إفريقيا هو خصم آخر من دور مصر الإفريقي، ولذلك أرى أن هناك عوامل سلبية كثيرة أصبحت تتحالف على الدور المصري وتسعى بشكل غير مباشر لوراثته أحياناً أو إزاحته فقط أحياناً أخرى .

* ثامناً: إن الدولة العبرية تتعامل بخبث شديد مع الدور العربي لمصر ولا تألو جهداً من إحراجها إذا تمكنت من ذلك، وواهم من يتصور أن اتفاقيات السلام مع ldquo;إسرائيلrdquo; تدفعها إلى احترام التزاماتها أو التوقف عن سياستها العدوانية التوسعية التي يتزايد خطرها يوماً بعد يوم، فهي دولة عنصرية لم تتوقف أبداً عن الاستمرار في تزييف الحقائق وتشويه الصور واستهداف مصر بالدرجة الأولى .

* تاسعاً: إن قضيتي الإرادة الوطنية والرؤية القومية هما الكفيلتان بتعزيز الأدوار العربية وحماية أمن الأمة وصيانة مصالحها العليا، أما الأجندات المختلفة والأدوار المتنافسة والمزاحمة والمزايدة ومحاولات الإقصاء وسرقة الأضواء فتلك كلها أمور عابرة لا تقدم ولا تؤخر .

* عاشراً: أرى المستقبل في الأفق القريب وهو يبشر بصورة مختلفة لأمة آن لها أن تصحو بعد أن صحت الدنيا حولها وقامت على أرضها كيانات جديدة ومخططات ملتوية، ورغم أنني لست من المتحمسين للتفسير التآمري للتاريخ إلا أنني مؤمن بوجود المؤامرة في ذلك التاريخ فاستقراء ماضي الأمم يؤكد ذلك في حاضر الشعوب ومستقبل المجتمعات .

هذه قراءة عاجلة في ملف شائك يدور حول الخلط الظاهر بين الحديث عن مشكلات الشعب المصري ومعاناته وتحويلها إلى قضية أخرى تمس قيمته ومكانته من خلال عملية استهداف متعمد تسعى إلى تشويه الصورة وخلط الأوراق وإعطاء انطباع عام بفقدان مصر لريادتها وتراجع دورها والانتقاص من قدرها، وأنا أحذر المصريين مؤيدين ومعارضين قبل غيرهم من خطر هذا التوجه على مستقبل وطنهم وأجياله القادمة، إنني ممن يؤمنون بأن قضية الدور هي عملية إرادية يمكن إحياؤها وبعث روحها في أقصر وقت، ولا يجب أن نأخذ من الماضي قراءة خاطئة لفكرة الدور الإقليمي، فرصيد مصر أكبر وأهم وأخطر من أن تنهيه أصابع أجنبية أو تعبث به قوى خارجية أو تستسلم له جماعات داخلية .