عادل درويش

يمكن التعرف على شاغل الرأي العام البريطاني في فترة زمنية من انشغال الصحافة البريطانية (مقروءة، مسموعة ومرئية، وإلكترونية)، باعتبار أن الصحافة في اقتصاديات السوق الحرة هي سلعة، مستهلكوها القراء والمشاهدون، فلا أحزاب أو دولة تدعم هذه الوسائل هنا، وبالتالي لا يمكن لمدير تحرير صحيفة (ومدير التحرير هنا ليس بالتوصيف الوظيفي في الصحف العربية، أي منظم للصفحات والإخراج، وإنما إداري تنفيذي هو حلقة الربط بين مجلس الإدارة ورئاسة التحرير والإعلان) أن يفرض اتجاها معينا على الصفحات أو نشرة الأخبار إذا كان الأمر لا يهم القراء.

والمقصود بالشاغل الإعلامي، كمرآة تعكس الرأي العام لدى الأمة، هو مجمل اتجاهات العناوين الرئيسية على الصفحات الأولى أو مقالات الرأي، والأهم من ذلك بريد القراء للمحررين (وهذا يستحق موضوعا قائما بذاته؛ لأن رسائل القراء هنا أغلبها من المتخصصين، تصحيحا لمعلومة في خبر، أو إضافة تاريخية بوثيقة، أو من شاهد على واقعة، وليست مجرد إثبات الوجود بمبدأ laquo;خالف تعرفraquo;). فبديهي أن أي قارئ أو مشاهد لن يتكبد مشقة الكتابة إذا لم تكن القضية تهمه، أو تمس حياته مباشرة، وهذا يفسر سبب اهتمامه بالخبر في المقام الأول.

فشاغل الرأي العام لم يكن أفغانستان التي يموت الجنود يوميا فيها، بل الميزانية التي قدمها وزير المالية جورج أوزبورن للبرلمان ظهر الثلاثاء.

الشاغل الأكبر للإعلام كان ما تعنيه الميزانية لدافعي الضرائب، أو حتى من لا يدفعونها، كالتلامذة وأصحاب المعاشات وربات البيوت أو أمهات بلا عائل. كل شخص يحسب ما سيبقى في جيبه آخر الأسبوع (الطبقات العاملة ومتلقو إعانة البطالة، أو مطلقات يتلقين الإعانة الاجتماعية)، أو آخر الشهر (كموظفي الطبقة المتوسطة)، أو في نهاية العام (كرجال الأعمال والمهنيين غير الموظفين والمستثمرين، وهم المجموعة التي تدر أكثر من نصف الدخل القومي للبلاد، وأكثر من ثلثي دخل مصلحة الضرائب والجمارك). أيضا كل يحسب مستوى الخدمات التي يتلقاها من رعاية صحية وتعليم ومواصلات ونظافة شوارع مقابل ضرائبه العامة والمحلية، خاصة أن وزير المالية أوزبورن (وهو كما ذكرت سابقا، أقوى وأهم منصب حكومي بعد رئيس الوزراء) كان صريحا في أنها ميزانية تقشف وتقليل إنفاق، وتأجيل لصرف المعاش (من 65 سنة إلى 68 سنة).

شبكات التلفزيون خصصت ندوات لمناقشة وزير المالية، ومساعديه كوزير الخزانة، ووزيري الإنفاق والمشتريات في الحكومة (الـlaquo;بي بي سيraquo; استضافت رئيس الوزارة ديفيد كاميرون ونائبه في الائتلاف الحكومي نيك كليغ زعيم الديمقراطيين الأحرار، أمام جمهور جلدهما بأسئلة هجومية، واتهمهما بالانحياز لصالح الأثرياء على حساب الفقراء في ندوة بث مباشر).

الشبكات خصصت وقت بث مباشر لوزير مالية الظل، أليستر دارلينغ، وكان وزير مالية حكومة العمال التي فصلها الناخبون من الوظيفة في انتخابات الشهر الماضي؛ ليبدي رأيه، ويتهم الحكومة بتصميم ميزانية ستخنق النمو والاستثمارات.

الحكم في النهاية للمشاهدين، وقراء مئات الأعمدة لمعلقين، كل يلقي بدلوه في بحر الميزانية من جانب معين من شاطئ البحيرة الاقتصادية.

وليعذرني من يعرف مسبقا من القراء أن مقياس نضج الشعوب ديمقراطيا وسياسيا ليس بالخروج في مظاهرات لتأييد قضية حركتها الصحافة في عواطف الجماهير أو ضد عدو وهمي، بقدر ما هي تعريف الناخب دافع الضرائب laquo;للسياسةraquo;.

فالسياسة لمواطني الديمقراطيات الناضجة ليست الهتاف laquo;بيوليو أو سبتمبر أو تشرينraquo; أو laquo;بالروح وبالدمraquo; في المؤتمر الجماهيري للزعيم، أو تأييدا لرغبته في إنشاء laquo;وحدة ما يغلبها غلابraquo; مع بلد يحكمه نظام آيديولوجيته laquo;دخلت مزاج الزعيمraquo;، فأطلق إعلامه laquo;ليخترعraquo; أسسا تاريخية وجغرافية ولغوية وأحلاما وأوهاما لهذه الوحدة؛ وlaquo;سياسةraquo; الناضجين ليست صراعا في الشوارع وlaquo;الفيس بوكraquo; حول تأييد جيران أو معاداة آخرين. laquo;السياسةraquo; عند مواطني الديمقراطيات الناضجة هي ما يؤثر سلبا وإيجابا على تفاصيل الحياة اليومية، سواء من حركة السوق وأسعار فائدة إقراض البنوك للمحلات والأعمال الصغيرة، وتكاليف ركن السيارة وتنظيف الشوارع، التي بدورها تخضع لقوانين تصدرها البرلمانات، وأصلها مطالب تتعلق بتفاصيل جمع القمامة أو إضاءة الشوارع، أثارها سكان دائرة انتخابية مع نائبهم، فقدمها سؤالا في البرلمان، ودرستها لجنة، وأصبحت مشروع قانون دخل حيز التنفيذ بتصويت الأغلبية.

قبل يومين تضمنت صفحة الرسائل في laquo;التلغرافraquo; 15 من القراء (بأسماء حقيقية وعناوين ومهن، أو خلفية أكاديمية تمنح المصداقية لمعلومات الرسالة)، ثمانية مباشرة عن الاقتصاد، بأرقام تدل على التنقيب في تفاصيل الميزانية (نشرت الميزانية في 114 صفحة فولسكاب فور انتهاء وزير المالية من خطابه في البرلمان، حيث ركز على العموميات لا التفاصيل)، وثلاثة عن تأثير مشروعات كهرباء على الريف، وواحد عن كرة القدم، واثنين لتعطيل لوائح الأمن والسلامة الأوروبية للأعمال. هناك خطاب موقع من كولونيل متقاعد تساءل عما إذا كان تحويل أفغانستان نحو الديمقراطية هو laquo;مصلحة حيوية لبريطانياraquo; تستحق التضحية بالأرواح؟ معلومات الخطابات من مصادر موثقة علمية.

تابعت، بمساعدة باحثين، في اليوم نفسه خطابات القراء على مواقع ثلاث من كبريات صحف القاهرة وبيروت، وكل صحيفة فيها 16 ضعف خطابات التلغراف.

معظم كاتبيها بأسماء حركية أو مستعارة، ولا عناوين لهم (لا ينشر خطاب هنا دون محادثة مرسله تليفونيا والتأكد من هويته).

بعض القراء العرب laquo;يكفرraquo; عبارة في المقال (مستشهدا بحديث شريف أو مرجع ديني)؛ والباقي لا يهتم بمشاكل laquo;تافهةraquo; كالمواصلات أو إضاءة الشوارع، بل بالسياسة الدولية كالتطبيع مع إسرائيل (وكأن المصريين حلوا مشكلات المواصلات، والمجاري، وسكن المقابر، وازدحام فصول مدارس فيها كل شيء إلا التعليم، ولم يبق إلا التطبيع! ولم يذكر أي تعليق حقائق رقمية كتحويل 45 مليار دولار منذ توقيع اتفاقية السلام من الإنفاق العسكري إلى خدمات مدنية، مع 27 مليار دولار دعم أميركي لمصر).

أو بفك الحصار عن غزة، ومسؤولية بريطانيا (ترى كم منهم طالع المراسلات الثلاثية: اللورد بلفور - روزتشيلد - الأمير فيصل مابين 1913 - 1917؟)، ولا ذكر لمسؤولية حماس أو الناخب الغزاوي العارف مسبقا بأن التصويت لحماس يضمن الحصار.

أو كمسؤولية laquo;النفوذ الصهيونيraquo; عن كل المشاكل، كاستقالة الجنرال ستانلي ماكريستال من قيادة القوات الدولية في أفغانستان، بعد إهانته في مقابلة صحافية لإدارة الرئيس باراك أوباما، الذي تؤكد بعض تعليقات قراء الصحف العربية أن الصهاينة أدخلوه البيت الأبيض ليغري العرب بمعسول الكلام، بينما يطبق سياسة رسموها لمصلحة إسرائيل.