محمد علي الهرفي

في المملكة العربية السعودية حراك ثقافي متعدد الأوجه، هذا الحراك يقبله البعض ويرفضه البعض الآخر، وكل فريق يعبّر عن رأيه بحسب المتاح له في أجهزة الإعلام أو سواها.

والفتاوى جزء مهم من هذا الحراك، بل قد يكون أحياناً من أهم هذه الأجزاء نظراً لمكانة الفتوى في قلوب السعوديين، وانقياد الكثيرين لها.

ولكي تتضح الصورة ndash; لمن لا يعرفها ndash; فقد كانت دار الافتاء هي الجهة المخولة بالافتاء، وكانت كلمتها هي الفصل في هذه القضايا، وكان المفتي له الكلمة الفصل في كل قضية تحتاج إلى توضيح، ولم يكن أحد يجرؤ على مخالفته إلا نادراً لأن الجميع كانوا يعتقدون بعلوِّ مكانته العلمية، ولهذا كانت مرجعيته لا تعلوها مرجعية أخرى.

لكن السلفيين الجدد تغيرت أحوالهم كثيراً شأنهم شأن بعض السلفيين القدامى الذين انسلخوا عن بعض ثوابتهم القديمة التي كانوا يستميتون في الدفاع عنها، ويلصقون بمن يحاول الحط من تلك الثوابت أكثر التهم والتي يكاد بعضها أن يجعله في النار خالداً مخلداً فيها خاصة إذا اعتقد حلها.

ويحار المرء في هذا النوع من السلفيين فهل كانوا يؤمنون حقاً بالسلفية التي كانوا يدّعونها قديماً أم أن الوضع الاجتماعي آنذاك هو الذي جعلهم يتظاهرون بالإيمان بها؟! ثم هل هم مؤمنون حقاً بما يقولونه الآن أم أن المتغيرات هي التي قادتهم إلى تلك الآراء الفقهية التي كانوا يحاربونها بكل قوة قديماً؟!

الشيخ laquo;عادل الكلبانيraquo; خرج بفتوى مفادها: أن الغناء مباح كله، دون ضوابط، معللاً تراجعه عن قناعاته السابقة بإعادة قراءته للنصوص مرة أخرى واختلاف فهمه الحالي عن الفهم السابق!

هذه الفتوى كانت صادمة لكلّ من عرف الكلباني قديماً فهو محسوب على التيار المسمى بـ laquo;الصحوةraquo;، وهو سلفي بامتياز، ومعروف أن السلفيين يحرّمون الغناء الموجود حالياً، فما الذي جعل هذا السلفي ينقلب تماماً على معتقداته السابقة؟!

ومثله الشيخ عبدالمحسن العبيكان في مجموعه من فتاواه التي وصفت بـ laquo;الشاذةraquo; مثل إباحة إرضاع الكبير التي أصبحت محل تنذر معظم شرائح المجتمع، وكذلك إباحة فك السحر بالسحر وبعض الفتاوى الأخرى.

فتاوى إباحة الاختلاط أخذت حيزاً كبيراً من الجدل بين شرائح المجتمع، فالبعض رأى إباحته بدون أن يضع ضوابط من أي نوع، وآخرون وضعوا بعض الضوابط، ولكن التيار الآخر من السلفيين كان يرى الاختلاط محرماً، بل إن بعض أفراد هذا التيار لم يكن يسمح بالاختلاط في حدائق الحيوان أو معارض الكتب أو ما شابه ذلك من الأماكن العامة، ومن هنا يتضح الفارق الهائل بين السلفيين الجدد والقدامى.

هذا النوع من الفتاوى جعلت الشيخ صالح اللحيدان رئيس المجلس الأعلى للقضاء سابقاً يصفها بالشذوذ، كما طالب الشيخ الكلباني أن يتوقف عن الفتيا ويكتفي بإمامة المصلين ولا شيء آخر... أما الشيخ محمد الدريعي فكان أكثر غضباً من تلك الفتاوى وأكثر حدة في التعبير عن رأيه حيث رأى أن موضع الشيخين الكلباني والعبيكان يجب أن يكون في سوق الخضار، وأكد أن المفتي السابق الشيخ عبدالعزيز بن باز والذي قبله الشيخ محمد بن إبراهيم لو كانا على قيد الحياة لطالبا بسجن هذين الشيخين!

إمام الحرم المكي الدكتور عبدالرحمن السديس وفي خطبة الجمعة وصف تلك الفتاوى بأنها منحرفة وتثير الفتن والبلبلة، وأنها تمثل خروجاً عن جماعة الأمة.

وحذر الشيخ السديس من laquo;غش المرأة المسلمة وخداعها بالتبرج والسفور والاختلاط المحرمraquo; وأخيراً طالب بالحجر على أنصاف.

بطبيعة الحال؛ حرب الفتاوى لم تقتصر على من أشرت إليهم، فهناك جمهور عريض كان مع هذا الطرف أو ذاك، فمن يصفون أنفسهم بالتنويريين كانوا مع تلك الفتاوى وأمثالها، أما السلفيون الأصلاء ndash; كما يقولون ndash; فكانوا يقفون مع علمائهم ويهاجمون التيار الآخر بشدة.

هذا التجاوب غير المعهود في الوسط الديني السعودي كان يطرح أكثر من سؤال: لماذا انقلب بعض السلفيين الذين عرفوا سابقاً بالتشدد على مبادئهم؟! وهل سيتوقفون أم أن تلك الفتاوى بداية لفتاوى أخرى قادمة؟! ثم ما الهدف من إثارة فتاوى شاذة في مثل هذا الوقت؟! ثم هل هذه الفتاوى تم اكتشافها الآن أم كانوا يعرفونها سابقاً وكانوا مقتنعين بها لكنهم صمتوا مسايرة للأوضاع آنذاك؟!

ولكثر الأسئلة حول مسئولية دار الإفتاء وهيئة كبار العلماء، أين هؤلاء جميعاً من هذه الفتاوى التي وصفها بعضهم بالشاذة؟! وهل يستطيعون إيقافها؟!

والسؤال الأكبر: هل بدأ الفكر السلفي ينحسر تدريجياً لصالح لافكر التنويري كما يصفه أصحابه؟! وإلى أين سيتجه في نهاية المطاف؟!

الواضح أن هناك صراعاً بين تيار سلفي يصفه laquo;التنويريونraquo; بالتشدد ومحاولة إبقاء البلاد على ما كانت عليه، وتيار يصفه السلفيون بالعلماني أحياناً والليبرالي أحياناً أخرى يريد أصحابه تغريب البلاد وإفسادها.

وفي ظل هذه التجاذبات، كيف سيصبح المجتمع السعودي مستقبلاً؟! من سيقوده وكيف؟! ثم ما هي المآلات في نهاية المطاف؟!

أسئلة تتردد كثيراً، وفي ظني أن معرفة إجاباتها تحتاج إلى وقت ليس بالقصير!