الخطاب السياسي الإسلامي فقد الكثير من مقوماته السياسية التي تشكل العمود الفقري لأي خطاب

ترجع أهمية الخطاب السياسي عموما في أنه المشكل الرئيسي للوعي السياسي, فمن دون خطاب واضح وناضج فإن مهمة تشكل الوعي السياسي ستعود إلى الصيغ الاجتماعية التقليدية والعصبية, فالقاعدة والمرجعية الأساسية لتبلور العلاقات السياسية والاجتماعية والوعي السياسي العام في مجتمعاتنا هي الطائفة والقبيلة, ومن دون تدخل في صياغة الوعي تظل تلك الصيغ هي المتسيدة والموجهة.
ولا يعد الانطلاق من تلك الصيغ والمرجعيات الاجتماعية والدينية لدعم تأسيس خطاب سياسي منسجم وطبيعة المجتمع مأخذا بقدر ما يعد الفشل في تأسيس خطاب سياسي مستقل وناضج مأخذا, فما هو حاصل اليوم أن الحركة الإسلامية اعتمدت على تلك الصيغ والقواعد التقليدية لتساعدها على النهوض بعد مرحلة الانفتاحات السياسية إلا أنها لم تستطع الخروج من مستنقع تلك الصيغ وأصبحت أسيرة للقبيلة والطائفة بل تحولت إلى متحدث وناطق رسمي باسمها.
ما يزيد من صعوبة المرحلة أن الوعي السياسي كان في السابق يملك روافد ومرجعيات أخرى تساهم في صناعته وتحديد مساراته إلا أنها اليوم انعتقت عنه ليرجع إلى صيغه التقليدية الضيقة, فقضايا الأمة كالصراع العربي الإسرائيلي والاحتلال والمشروع العربي القومي المشترك وكذلك حالة الانتماء القومي والعلاقة التصادمية مع الأنظمة الاستبدادية جميع تلك الأمور كانت تشكل قبل عقود مضت روافد للوعي السياسي, أما اليوم ومع تأصل القطرية والانشغال بالهم السياسي اليومي والمحلي الذي دفعت به أجواء التحول الديمقراطي والتي بدأت منذ عقدين فإن المرجعية انحصرت
في الروافد والصيغ التقليدية لتشكيل الوعي السياسي.
لهذا تبدو مهمة الخطاب السياسي الإسلامي على وجه الخصوص أصعب اليوم, فمع تقلص المنافذ والروافد التي كان الخطاب السياسي يتسلل عبرها إن جاز لنا التعبير, تبدو المهمة أكبر على عاتق الخطاب السياسي للحركات السياسية, فقوة ونضج وفاعلية الخطاب السياسي اليوم هي الرهانات الوحيدة على أن تخترق الأطر التقليدية وتساهم في إعادة تشكيل الوعي السياسي الوطني.
لكن ما يبدو المشهد عليه اليوم لا يشير على أن صدارة الخطاب السياسي في سلم الأولويات المؤثرة في الوعي السياسي, فالتراجع الذي يعاني منه الخطاب جعله غير قادر على تفعيل وإعادة تشكيل هوية هذا الوعي السياسي وأولوياته بل رؤيته السياسية عموما.
ويعزو هذا التراجع لجملة من المسائل أبرزها أنه فقد الكثير من مقوماته السياسية التي تشكل العمود الفقري لأي خطاب, ومن تلك المقومات المرجعية الفكرية لخطاب الحركة, فالحركات الإسلامية اليوم تكاد تخلو من الرموز والشخصيات الفكرية التي أسست الأدبيات والرؤى والمشروع في المراحل الأولى من عمر الحركة, ومع تجدد التحديات وتغير أشكال الصراع والتغيير كان لابد وأن تبعث وتولد شخصيات قادرة على تجديد تلك المرجعيات الفكرية والسياسية, إلا أن هذا لم يحدث.
ما حدث بالتحديد هو أن أهملت هذه الجوانب الفكرية والتأصيلية واستبدلت باجتهادات أهل السياسة والمقايضات السياسية, ولعل هذا ما خلق حالة من التذبذب وعدم الاستقرار في الخطاب السياسي والذي سبب بدوره تضاؤل مصداقيته وتراجع تأثيره في الوعي السياسي العام في المجتمع.
ويمكننا صياغة ما سبق في العبارة التالية, وهي أنه بفقدان الحركة للرموز والشخصيات الفكرية عجزت عن بلورة رؤية ومشروع سياسيين ناضجين ومن دون الرؤية والمشروع تكون الحركة عاجزة عن تشكيل أي خطاب سياسي حقيقي وناضج.
من جانب آخر, يعود تراجع الخطاب السياسي الإسلامي إلى كونه فقد الكثير من مبادئ وقيم الخطاب الذي كان يمتاز به عن غيره من الحركات غير الاسلامية, فمشاركته في الاحتراب الطائفي وتغيير المواقع السياسية من دون مبرر والمقايضات السياسية مع الحكومات والتعاون مع الجهات الخارجية المختلفة والشخصنة السياسية وغير ذلك من الأمور والمبادئ التي كانت الأدبيات السياسية السابقة مفعمة بها, جعلت خطاب الحركة السياسي لا يعدو كونه تصريحا اعلاميا أو شعارا سياسيا.
جميع تلك الأسباب وغيرها جعلت الخطاب السياسي الإسلامي ليس عاجزا عن تشكيل الوعي السياسي فحسب وإنما جعلته عاجزا أيضا عن تجاوز الأزمات السياسية واستيعابها, فبدل أن يتجاوز الخطاب السياسي الأزمات والأجواء المأزومة نجده يصطف إلى جبهات القتال ليدفع نحو مزيد من الانسدادات السياسية.