طريف عيد السليطي


عنوان هذه المقالة تحريف لعنوان الكتاب الشهير للدكتور نصر حامد أبو زيد والمُعنون بـ ( التفكير في زمن التكفير ). والحقيقة أن هذا الكتاب، وغيره من كتب مرحلة الثمانينات والتسعينات ومطلع هذه الألفية، هي كلها كتب تستجيب لفترتها التاريخية وتحديات الفكر والواقع في ذلك العصر أو ذاك. كان من المفهوم حقاً أن يتوجه الكاتب آنذاك بالنقد والتقويض والتفكيك لظواهر laquo; التكفير laquo; التي كانت مفرزاً من مفرزات الحركات الإسلامية المتطرفة ( وليست المعتدلة ) فبالطبع يوجد إسلاميون معتدلون وبعيدون تماماً عن مسألة التكفير، ولكن وُجد أيضاً من يستغلون الإسلام للتكفير ونبذ الآخرين وطردهم شرّ طردة من المعتقد الإسلامي الذي اختصروه واختزلوه في أنفسهم وذواتهم. وهذا طبيعي تماماً، فالمتطرفون يوجدون في كل مكان، في كل الأديان والمعتقدات والأعراق والطوائف والتجمعات البشرية، فالإنسان ميال بطبعه للتطرف تارة، والاعتدال تارة أخرى. ولكن الملاحظ أن التفكير في laquo; التكفير laquo; بوصفه موضوعاً يخص فترة الثمانينات والتسعينات ( بوصفها فترة انتعاش الحركات الإسلامية المتطرفة ) أقول إن هذا الموضوع لا بد وأنه قد انتهى زمنه وتلاشى وقته، وكاتب هذه المقالة يريد التبشير بعصر آخر، عصر جديد نتخلص منه من هذا المبحث التقليدي والعتيق والمنتهية صلاحيته، والتفكير بمشاكلنا الأخرى التي لا تتعلق بالتكفير والتطرف والأصولية والإرهاب والتزمت والتنطع، إلى آخر هذه المحاور المستهلكة والمقتولة بحثاً . ولا أزال أستغرب من صبر هؤلاء وجلدهم الطويل على تكرار المواضيع المرة تلو المرة عن الأصولية والإرهاب والمرأة والحجاب، وكأن هذا المبحث هو وحده الذي انطوى فيه كوننا الأكبر ! ولا يمكن بالفعل تحديد أولويات أية كتابة، أكانت كتابة صحفية، أم أكاديمية، أم فكرية، أم فلسفية . الكتابة هي منوطة باهتمامات الكاتب، ولا يمكن، على سبيل العينة والتمثيل، أن نطلب من أي كاتب أن يقصر اهتمامه على موضوع محدد وواحد، ولكن مهمة الكاتب حسبما أرى تكمن في اختيار عدة مواضيع، وتجزئة الموضوع إلى فكرة صغرى ومحدودة تشغل مقاله من أعلاه إلى أسفله. هذه الفكرة ليست منعزلة بالطبع عن ( ماكينة ) أفكاره الضخمة التي تولد بدورها هذه الأفكار الجزئية الصغيرة المتناثرة عبر المقالات والمقتطفات. لكن الغريب في الأمر أن كثيراً من الكتاب لا يزالون يكتبون بلغة الثمانينات والتسعينات ( لغة الحرب على الصحوة الإسلامية ) وكانوا حينذاك يسخرون من كتاب الستينات والخمسينات الذين يستخدمون لغة الحرب على الصهيونية، أي لغة القوميين العرب واليساريين . وأرى أن زمن الصحوة انتهى، ومعها انتهى زمن الأيديولوجيات الشمولية، ويفترض أن يكون عصر النقد الجذري والشامل قد ابتدأ الآن . ثمة مظاهر ضخمة وهائلة تحيط بنا وتحتاج للتحليل والكتابة عنها والقراءة حولها، ظواهر التأزم الاقتصادي، والظواهر الاجتماعية القائمة في مجتمع laquo; تقليدي laquo; الفكر و laquo; عصريّ laquo; المادة والوسيلة، والظواهر المتعلقة بأزمات النخبة التي لا تنتقد نفسها ولا ترضى بمن ينتقدها ولا تطور من ذاتها، وأزمة التفككات القبلية والعشائرية والأسرية والانحيازات في بلد يفترض فيه أن يخطو خطوات التطوير الأساسية صوب وطن موحد متماسك الأوصال والأجزاء. إن هذه المواضيع ما هي إلا عينات، ونماذج، لما يمكن أن يُكتب عنه، وهي قطعاً ليست الوحيدة، فالحياة هي شاسعة وواسعة ومليئة بالأحداث القمينة بالكتابة عنها، لا سيما في بلداننا التي لا تزال تحث المسير نحو النهضة بآفاقها العريضة . وهذا يعني وجوب التفكير في غير laquo; التكفير laquo; ! فقد انتهى هذا المبحث بتقهقر الحركات الإرهابية وانهزامها شر هزيمة، ومن ثمّ أمكن التفرغ للكتابة عن المشكلات الحقيقية والجوهرية التي تعاني منها مجتمعاتنا ومؤسساتنا، وليس التخندق في خانة الكتابة الأحادية الأيديولوجية الموجهة خصيصاً وفقط للهجوم على الإرهابيين العمالقة الذين بولغ بحجمهم الحقيقي، والذين يذكرونني بسعلوّة الصحراء التي لم يعثر عليها أحد في يوم من الأيام ! إن التفكير في غير التكفير هو فرض عين على كل كاتب كما أرى، والمشكلات والقضايا المؤرقة التي تؤزم من وجودنا الاجتماعي والإنساني جديرة بالالتفات إليها والتدبر بتضاعيفها وتفاصيلها المهمة. أما مشكلات الإرهاب والأصولية والتطرف وما شابه، فهي مشكلات ماضية نحو الأفول والموات، هذا إن لم نقل بأنها انقرضت أصلاً، وماتت، ونخر الدود هياكلها العظمية.