أيمن الهاشمي

كان عربي الوجه واليد واللسان وعربي التشيع والفكر والوجدان وكان ضميراً صاحياً لأتباع آل البيت

فقد العالم العربي والإسلامي الشيخ المرجع محمد حسين فضل الله الذي وافته المنية في الثالث من يوليو الجاري في أحد مستشفيات لبنان بعد مرض عضال, والشيخ الراحل من مواليد العراق (النجف الأشرف) 1935, درس العلوم الدينية فيها بوقت مبكر, ويعتبر من أكثر علماء الشيعة انفتاحاً على التيارات الأخرى, ويمقت التطرف والتكفير والممارسات البدعية التي ادخلت على المذهب الشيعي العروبي, بدأ التدريس العلمي كأستاذ للفقه والأصول في النجف, ومن ثم شرع في تدريس بحث الخارج ويحضر دروسه طلاب من شتى أنحاء العالم الإسلامي عموماً والعربي على وجه الخصوص وتخرج على يديه كثير من علماء الشيعة البارزين. وفي العام 1966 غادر فضل الله العراق متوجهاً إلى لبنان ليؤسس حوزة المعهد الشرعي الإسلامي وجمعيات خيرية ومبرات للأيتام.
ولم تخل مسيرة الشيخ الراحل فضل الله الشاقة من العمل السياسي فقد مارس في البدء دور المرشد الروحي لmacr; quot;حزب اللهquot; خلال فترة انطلاق الحزب وقد تعرض لمحاولات اغتيال عدة أبرزها تفجير استهدف منزله في الضاحية الجنوبية لبيروت في منطقة بئر العبد العام 1985, لكنه بعد أن تكشفت له أسرار quot;حزب اللهquot; وارتباطاته المشبوهة بإيران انفصل عن الحزب, وصار ينتقد مساراته وتوجهاته وخضوعه التام للتأثير الإيراني.
أنشأ مسجداً أطلق عليه تسمية quot;مسجد الحسنينquot; في الضاحية الجنوبية لبيروت, العام 1996, ومنه واصل فضل الله إلقاء خطبه وعظاته الدينية ومواقفه السياسية وعرف بفتاواه المتنورة وكان أول من دعا إلى إثبات هلال شهر رمضان من خلال الأرصاد وعلم الفلك. ويعتبر فضل الله منذ أكثر من أربعة عقود, مرجعية بارزة في المذهب الشيعي, واشتهر بوصفه واحدا من رموز الاعتدال, وعده مؤيدوه مجدداً في الفكر والمذهب ووصفوه بmacr; quot;رائد الوحدة الإسلاميةquot;, نظرا لجهوده في التقريب بين المذاهب, وينتشر مقلدوه في بعض الدول العربية ومنطقة آسيا الوسطى. ومنذ دراسته في النجف فقد برزت آراؤه المخالفة لنظرية (ولاية الفقيه) التي ابتدعها وطبقها الإمام الخميني لينشأ في هذه المرحلة خلاف على مرجعيته بيد أنه ظل يحظى باحترام الجميع.
لم يتورط محمد حسين فضل الله في لعبة الصراع الطائفي, ولا في تلك الحرب القذرة التي تقودها بعض المراجع الشيعية ذات الأصول غير العربية, ضد أمهات المؤمنين وصحابة الرسول صلى الله عليه وسلم, وضد العروبة والعرب, لذلك حظي باحترام جميع المسلمين, واعتبره اللبنانيون بمختلف طوائفهم رمزا وطنيا وقوميا وإنسانيا وأحد عناوين الهوية اللبنانية والعربية والإسلامية المتجذرة في بيئة المقاومة والنضال والصمود. كان محمد حسين فضل الله دمث الأخلاق, وطيب المعشر, ووافر العلم, وقوي الحجة, ومؤمنا بأنه لا بديل عن الحوار بين الفرقاء السياسيين وبين الطوائف والمذاهب, وبأن لبنان لكل اللبنانيين, وبأن الطائفة الشيعية ستكون أقوى بتفاعلها الإيجابي مع بيئتها.
ويحظى العلامة الراحل بشعبية واسعة في العالمين العربي والإسلامي لم تقتصر فقط على نشاطه الديني, وإنما شملت أيضا نشاطه العلمي والفكري والأدبي. ولفضل الله العديد من المؤلفات في الفقه وشرح القرآن والعلوم الإسلامية وسيرة أهل البيت وفي علم الاجتماع, ومن مؤلفاته quot;أسلوب الدعوة في القرآنquot;, وquot;الاسلام ومنطق القوةquot;, وquot;فقه الشريعةquot; الذي يضم آراءه الفقهية الكاملة ليسترشد بها مقلدوه, وقد أصدر قبل وفاته بأيام ديوانه الشعري الرابع quot;في دروب السبعينquot;.
كان موقفه من الحرب على العراق 2003 متميزا ومختلفا عن موقف حوزة النجف وموقف ملالي طهران وقم حين افتى السيستاني بحرمة التعرض للاميركان المحررين, فقد أصدر فضل الله فتواه الشهيرة بعدم جواز مساعدة الأميركان وحلفائهم في ضرب وتدمير العراق, إنطلاقا من حرمة إعانة الكافرين على المسلمين.
تمتع- يرحمه الله - بسعة علمه وشموله مرجعا للكثير من المسلمين, كان يجمع ولا يفرق, وكان يملك رؤية شاملة وإصلاحية في الفقه والفكر تجمع أتباع جميع المذاهب الإسلامية, وعلى المستوى الشيعي الداخلي, فقد كان معارضا للحكم الديني المسمى quot;ولاية الفقيةquot;, وقد جعله ذلك يتوارى إلى الظل شأن جميع المراجع الشيعية المعارضين لولاية الفقيه. وقد صدر للعلامة فضل الله مجموعة من الكتب المهمة, يقرأها المسلمون من جميع المذاهب, مثل: من وحي القرآن, والحوار في القرآن الكريم, والمدنس والمقدس, وأميركا وراية الإرهاب الدولي, ويعتبره كثير من أتباعه ومريديه مجددا في الفقه والأصول, يعتمد على الرؤية القرآنية كأساس في الاجتهاد والشمولية في الرؤية الفقهية, وقد منحه الذوق الأدبي الراقي, والقدرة اللغوية المتميزة فهماً أدق وأعمق للنصوص الشرعية. واشتهر عنه فتاواه بتحريم ضرب الذات في ذكرى كربلاء, واعتماد الوسائل العلمية المتقدمة في تحديد أول أيام الشهور القمرية.فضل الله يحسب على علماء الوسطية, وهو يعتقد بأهمية الحوار وأنه يمكن أن يكون أساسا لتجتمع الإنسانية حوله, وعلى الإنسان الاطلاع على أفكار الآخرين, ففي ذلك فهم لفكر الآخر. وكان أول كتاب له قبل 50 سنة هو quot;أسلوب الدعوة في القرآنquot;, ثم كان كتابه الثاني هو quot;الحوار في القرآنquot;, فالحوار في هذا السياق أحد الأفكار والحلول المهمة للخروج من مأزق العنف والتطرف.
إن من يفقه خصوصيات فكر واجتهاد ورؤى ومواقف العلامة محمد حسين فضل الله, المرجع العربي الذي آمن بأن الدين فوق المذهب, وبأن التشيع العربي لا يمكن أن يكون مناقضا للعروبة, ولا خنجراً مسموما في خاصرتها. فقد روى مدير مكتبه كيف أن الراحل الكبير كان منذ أقل من شهر يستمع إلى بعض حوارييه وهم يتحدثون حول أفضل الأساليب لخدمة المذهب ونشره, فرد عليهم بضرورة البحث عن أفضل الأساليب لخدمة الإسلام.
وإذا كانت المرجعيات الفارسية قد سيطرت على أغلب مراكز التأثير الروحي الشيعي بخلفياتها القومية العنصرية المتعصبة التي تصب في إطار إذكاء الفتنة المذهبية والطائفية وشق صفوف المسلمين, وتقزيم الدور العربي والتشكيك في تاريخ الأمة وفي رموزها العظام, فإن رحيل محمد حسين فضل الله سيزيد من إضعاف التشيع العربي أمام التشيع الفارسي المتطرف والمتشنج والذي يعتقد معمموه بأن أهدافهم لا تتحقق إلا بمزيد من توسيع الهوة بين أتباع المذهب الشيعي وأهل السنة والجماعة.
ومثلما يتبوأ الشيخ يوسف القرضاوي منبر الوسطية والاعتدال في المذهب السني, فإن الراحل فضل الله كان يتبوأ ذات المنبر في مذهبه. ولا شك أن رحيل محمد حسين فضل الله خسارة لا تعوض للأمة العربية, فلأن الرجل كان عربي الوجه واليد واللسان, وعربي التشيع والفكر والوجدان, وكان ضميرا صاحيا لأتباع آل البيت ممن لا يرون أي تناقض بين إسلامهم المعتدل والمتسامح والمقاوم وبين عروبتهم المتجذرة والمتأصلة والحضارية. رحم الله محمد حسين فضل الله, فقد كان حكيم الشيعة, وصمام الأمان للتشيع العربي ونور الصدق الذي أشع من جبل عامل ليضيء دنيا العرب والمسلمين. رحيل آية الله العظمى محمد حسين فضل الله خسارة كبرى ومدوية لكل المسلمين بسنتهم وشيعتهم, فلأنه كان عنصر تقارب أساسيا, وينبوع حكمة, عكس مراجع أخرى سعت دائما للتفريق بين الطوائف ولبث الفتنة والبلبلة, ولخدمة أجندات تجعل من الصراع الطائفي طريقا لتمرير أهداف أطراف إقليمية حاقدة على العرب والعروبة.