خالد الغنامي

لم تكن مفاجأة كبيرة أن يخرج للعالم ذلك التقرير الذي سربته وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (سي آي إيه) عن قرب نهاية دولة إسرائيل وأنها سوف تزول خلال عشرين عاما من الآن، ذلك التقرير الذي قال إن حل الدولتين الذي تحاول الإدارات الأمريكية المتعاقبة أن تروج له، حل مستحيل التحقق، وأن حل الدولة الواحدة العلمانية الديموقراطية التي يتساوى فيها كل المواطنين في الواجبات والحقوق بغض النظر عن أديانهم وأعراقهم بحيث يتعبد كل لربه بما شاء، هو الحل الأقرب للتحقق، وأنه من المستحيل أن يكون هناك صلح دون عودة الفلسطينيين الذين تم طردهم من وطنهم في 1948 و 1967، الحديث هنا بطبيعة الحال عن (دولة إسرائيل الثيوقراطية القائمة على أساس الديانة اليهودية). ليس في الأمر مفاجأة، وقد سمعته من أستاذي الدكتور عبدالوهاب المسيري عندما كان يدرسنا في قسم اللغة الإنكليزية ndash; جامعة الملك سعود منذ أكثر من عشرين عاماً، ذلك الحديث الذي كان يتحمس له أكثر من تدريسه للأدب والترجمة، وحتى قبل أن تخرج موسوعته الضخمة (اليهود واليهودية والصهيونية). استقراء الدكتور المسيري للأحداث قبل وقوعها، لم يكن يبنيه على العاطفة، وإنما على الواقع المشاهد والتحليل العقلاني المنطقي، وقد لخص الدكتور المسيري أسباب السقوط في النقاط التالية:
1- تآكل المنظومة المجتمعية للدولة العبرية فالإسرائيليون المهاجرون إلى إسرائيل لم يستطيعوا أن يندمجوا مع بعضهم بعضا خلال الستين سنة الماضية، فالإشكناز وهم اليهود القادمون من أوروبا الشرقية يحتقرون السفارديين وهم اليهود الذين أخرجوا من إسبانيا والبرتغال في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، والكل يحتقر اليهود المزراحيين وهم يهود الشرق الأوسط.
2- الفشل في تغيير السياسات الحاكمة وهذا مشاهد اليوم في سياسة نتنياهو العنصرية التي ستقوده حتماً إلى حرب.
3- زيادة عدد النازحين لخارج إسرائيل والتقارير الأخيرة تتحدث عن نصف مليون يهودي يعيشون في إسرائيل لكنهم يملكون أيضاً جوازات سفر أمريكية، فضلاً عمن هاجروا بالفعل إلى الولايات المتحدة و كندا ودول أوروبا وهم يقدرون بمئات الألوف.
4- انهيار نظرية الإجماع الوطني بسبب انقسام المجتمع لدينيين وعلمانيين. وفشل تحديد ماهية الدولة اليهودية حيث ما زالت المعركة قائمة بين العلمانيين الإسرائيليين ورجال الدين حول هوية الدولة هل هي دينية كما هو الواقع أم علمانية كما يراد لها.
5- عدم اليقين من المستقبل والتقارير تتحدث عن انتشار الأمراض النفسية و إدمان المخدرات.
6- العزوف عن الحياة العسكرية برغم أن الحكومة الإسرائيلية تعاقب من يقوم بقطع الإشارة الحمراء بعقوبة الخدمة لمدة شهر في الجيش في محاولة لغرس الروح العسكرية في الشعب الإسرائيلي.
7- عدم القضاء على السكان الأصليين كما حدث في الولايات المتحدة وأستراليا.
8- تحول إسرائيل إلى عبء على الاستراتجية الأمريكية وهذا واضح تماماً فأغلب المسلمين والعرب يضعون إسرائيل كسبب أول لما حدث في 11 سبتمبر، وأخيراً وليس آخراً : استمرار المقاومة الفلسطينية.
أهمية هذا التقرير أن من أعدّه ليس إسلامياً حالماً، ولا قومياً عربياً يكره إسرائيل، وإنما المخابرات الأمريكية بشحمها ولحمها، والحق ما شهدت به الخصوم، وكل ما ذكره التقرير وقبله فيلسوفنا العظيم عبدالوهاب المسيري يبدو كنتيجة منطقية وإن لم تصبح حقيقة واقعة. لم يكن مفاجئاً هذا التقرير فإسرائيل ضد التاريخ والجغرافيا وضد كل شيء جميل، لكن هذا التقرير الاستخباراتي بلا شك مفاجأة كبيرة وصدمة مزعجة لكل أولئك الكتّاب العرب المتصهينين الذين أزعجونا كثيراً بمحاولة فرض إسرائيل كجزء من الواقع الذي يجب أن يعاش، ولعلنا نرى بعد هذا التقرير تحولاً جوهرياً في كتابة هؤلاء الكتّاب، وعسى ألا نكون قساة معهم ولنسمح لهم بجمع ما تبقى من ماء الوجه كخصم نبيل، ولعله من المناسب هنا، أن أذكر موقفاً حصل لي مع أستاذي المسيري أنه عندما كان يدرسنا مادة (151 نقد) في أواخر الثمانينيات، فقد نلت عنده درجات ضعيفة في الاختبارين الشهريين، لكنه أعطاني تقدير جيد مرتفع في الامتحان النهائي، وعندما لقيته في يوم استلام النتائج قال لي بلغة إنكليزية: quot;لقد جمعت نفسك جميعاً في آخر لحظةquot;. أتمنى أن نفعل ذلك جميعاً ككتاب يكتبون عن قضيتنا الكبرى وهمّ أمتنا الأساس، أن نجمع أنفسنا جميعاً في آخر لحظة.