سعود البلوي

ما يميز الإنسان هو العقل الذي ساعده على أن يكون الكائن الأفضل، تطوّر وارتقى بينما بقيت بقيّة الكائنات بدائية. ورغم أن الأمر كذلك، يبقى إعمال العقل بشكل إيجابي هو الفيصل في مسألة التطور والارتقاء في الحياة، فأفكارنا هي التي تحدد الكثير من سلوكياتنا وتصرفاتنا، وبالتالي فهمنا لما يجري في الكون من حولنا. فإذا ما تلقينا مختلف المعارف بشكل (ثابت)، أي لم نخضعها لميزان العقل وقياس مدى نسبة الحقيقة فيها، فإننا بذلك نجعلها تبدو حقيقة كاملة، غير قابلة للتغير من خلال عدم قبولها لـquot;الشكquot; الذي هو أول خطوات القياس.
والاختلاف الإيجابي ينطلق أساسا من اختلاف طريقة التفكير، وأعني به التفكير الإيجابي الذي لا يحوي أي مشروعات لتدمير الإنسان، والذي يمكن أن نصفه هنا بأنه التفكير المثير للوعي الإنساني، بتركيزه حول كرامة الإنسان وأهمية حريته وخياراته، ضمن فرص متكافئة للحصول على معيشة أفضل.
جميل أن نرى قيمة الاختلاف تتجسد اليوم على مستوى المعرفة الدينية، ممثلة في اختلاف آراء علماء الدين، فهذا يمثل نوعا من عودة شرعية الاختلاف إلى الفقه الإسلامي بعد عصر الانحطاط؛ فالخطاب الديني منذ قرون طويلة لم يكن يعترف بمبدأ الاختلاف، باعتباره فتنة وشذوذا عن الحق والحقيقة، انطلاقا من مبدأ امتلاك الحقيقة المطلقة، وهذا ما يؤكده محمد بن أبي القاسم الشهرستاني في quot;الملل والنحلquot;؛ حيث يعتبر أن quot;الحق في جميع المسائل يجب أن يكون مع فرقة واحدةquot;، أي حكرا على فئة واحدة، وهذا فيه إلغاء للاختلاف وقصر للحقيقة على عقول معينة!
بينما يتحدث أبوحامد الغزالي بشكل إيجابي عن الاختلاف في القرآن الكريم؛ مؤكدا أن الاختلاف منفيّ عن ذات القرآن، ولكنه ليس منفيا عن فهم الناس له من خلال التأويل والتفسير، وهنا يكون بيت القصيد: عقل الإنسان.
كثيرا ما أقول: إن الاختلاف يثري الثقافة ويسهم في تجديدها وتطورها، غير أن ما يقتل بذور الاختلاف هو إقصاء الرأي الآخر، إذ غالبا ما يكون التصنيف مدخلا لهذا الإقصاء (وأعني به التصنيف المنطوي على تهمة)، وما نشهده الآن من اختلافات فقهية بين بعض المشايخ في المملكة، نأمل أن يكون إيذانا ببدء مرحلة جديدة يكون فيها تقبل المختلف أمرا أساسيا، ولكن لا أظن أن ذلك يشي بانتهاء قريب لمرحلة طويلة سادت فيها أحادية الرأي؛ لأن هذه المرحلة ذات جذور عميقة وغائرة في ثقافتنا الإسلامية، وبالتالي نحن أمام حتمية أمرين ربما يكونان كفيلين بانتهائها: استمرار الاختلاف، وفعلُ الزمن!
لقد شهدنا خلال الفترة الماضية اختلافات حادة بين بعض علماء الدين السعوديين في مسائل قد تبدو للناظر إلى حال العالم اليوم منتهية وتم تجاوزها، إلا أنها بالنسبة لنا غير محسومة، بل إنها أسهمت في إعاقة تطور الفرد والمجتمع، وبالتالي إعاقة الكثير من مشاريع الإصلاح ورؤى التقدم.
من خلال متابعة المشهد المحلي يتضح لنا أن الخطاب الديني عامة لا يقبل الاختلاف مع (مخالفيه)، فالوسائل الدفاعية التي يستخدمها هذا الخطاب تكاد تنحصر في الإقصاء المتمثل بالتأليب والاتهام بشكل يشبه الرصاصات الطائشة؛ إذا لا يُقبل الاختلاف حتى من (المتفقين) معه مبدأ، والمختلفين معه رأيا. وكثيرا ما واجهت بعض الأفكار سيلا من الاعتراضات على أسانيدها الفقهية، خرجت عن أطر الاختلاف بصورة تدل على عجزٍ عن استيعاب هذا الاختلاف ورفض لمقارعة الحجة بالحجة.
في معظم المسائل الخلافية في الفقه الإسلامي لم يكن الاختلاف في الدين ذاته، إنما كان على (فهم) الدين من خلال تأويل النصوص وتفسيرها، فالنصوص الدينية المقدسة ثابتة لا تتغير بتغيّر الزمان والمكان، إذ لا يمكن إعادة كتابتها من جديد، ولكن يمكن إعادة فهمها وبالتالي تفسيرها بما يتماشى مع سماحة ديننا الإسلامي وتسامحه، إلا أن المعضلة اليوم هي رفض الاختلاف على اعتبار خاطئ وهو وجوب أن يتماهى الناس مع السائد ولو لم يتساووا في الفهم، وهذا أمر غريب كأن المقصود منه احتكار (الحقيقة) الدينية على فئة معينة من الناس!