عبدالرحمن الجميعان



هل رأيتم طفلاً يشرح عملية جراحية للناس؟ أم رأيتم مطرباً يتكلم في الطب أو القانون أو غيرها من علوم؟

بالطبع ستكون الإجابة بالنفي، لماذا؟ لأن الطفل لم يدرك بعد، والمطرب لا يفهم في القانون والطب، فإذا تجرأ وتكلم عرف أن الألسنة ستأخذه، ولكن لعل من العجيب أن نرى الجميع يتكلمون في الفتاوى، الممثلة والمطرب، والعالم والجاهل، والمهندس والطبيب، وهكذا فأصبحنا كلنا مفتين والجميع يعرف حكم الله في المسألة، فتراه بكل بساطة يعطيك الفتوى وكأنه عالم بالأمر، وما علم أن الفتوى شأنها عظيم، فقد وصفها ابن القيم أنها توقيع المفتين عن رب العالمين، لأنها شريعته وهم المتكلمون باسمه تعالى.

هذه مسألة، والأخرى، أن هناك علاقة بين الفتوى والواقع، وهناك فرق بين الفتوى والحكم، وهذه مسائل كثيراً ما يخفق فيها من لم يتمرس في علم الفقه وأصوله، بل إن بعض المفتين يقعون في هذا الخطأ فيفتون بمجرد طلب البعض منهم الفتيا دون النظر في الواقع الخاص بالمستفتي.

وهنا قضايا ينبغي أن تحرر، فلا بد من معرفتها، وتوجيه الناس لها وتفهيمهم، لا لجعلهم يفتون، كلا، فالفتوى لها أهلها الذين هيأهم الله تعالى لها، وإنما كي يفهموا ويقدروا حال العلماء والمفتين.

بادئ ذي بدء لا بد من التفريق بين الفتوى والحكم، فالحكم ثابت، والفتوى تدور بحسب الزمان والمكان، وهذا ما يطلق عليه العلماء تغير الفتوى بتغير الزمان والمكان، ومعلوم حال الإمام الشافعي رحمه الله عندما غير فتاواه بانتقاله من العراق إلى مصر نظراً لتغير أحوال الناس وواقعهم وأعرافهم، فيظن الجاهل أن الشافعي قد أخطأ في هذا، أو أنه قد جهل بعض الأحكام، ولكنه لم يفطن إلى تلك الحقيقة التي وعاها الشافعي وغيره من العلماء، ولهذا تجد في بعض الأحاديث سؤالاً ثابتاً ولكن أقوال المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم تتغير، وهذا هو الفقه الذي يريده النبي صلى الله عليه وسلم أن يفهمه من هو أهل للفتيا، أن يراعي حال المستفتي، وواقعه الذي يعيش فيه، ولهذا حرم الفقهاء بيع السلاح في الفتنة لا لأجل السلاح، بل لأنه يأجج الفتنة أكثر، ويبيح دماء المسلمين، فالفقهاء نظروا إلى الواقع الذي سيكون عند جواز بيع السلاح، وكيف سيستغله البعض في ترويج بضاعتهم من خلال بيع السلاح، فالفقهاء من باب سد الذرائع، الذي هو منع ودرء الفساد، قد حرموا هذا.

هذه مسألة تندرج تماماً تحت عملية التفريق بين laquo;الفتوىraquo; وraquo;الحكمraquo;، فالحكم ثابت، مثل شرب الخمر وأكل الميتة، ولكن إن كان المسلم سيموت عطشاً يفتيه العلماء بجواز ما يسد جوعه من الميتة أو شرب الخمر ما يسد عطشه، فالفتوى متغيرة والحكم ثابت، وهي مسألة مهمة جداً في الفقه الإسلامي، ولهذا قد تجد الشيء عند البعض محرماً ولكنه عند آخرين قد افتوا بجوازه نظراً لحال أو واقع، وهي مسألة دقيقة جداً.

ثم هناك أمر آخر أن العالم قد يخطئ في فتواه، ولهذا رأينا الكثير من السابقين واللاحقين يتراجعون عن فتاواهم، وهي أيضاً مسألة ينبغي وضعها في هذا الميزان، فقد يفتي العالم ويخطئ، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم (إذا حكم الحاكم فاجتهد ثم أصاب فله أجران وإذا حكم فاجتهد ثم أخطأ فله أجر)، والحاكم هنا المفتي، وكل هذا ليدلنا النبي صلى الله عليه على فضل تحريك العقول، والجرأة في الاجتهاد وعدم الإحجام مادام المرء يملك أدوات الفقه.

فالاجتهاد له فضل كبير في دين الله تعالى، وهو مدعاة لتحريك العقول وعدم تجميدها، أو انكفائها على فتاوى السابقين.

أظن أن على العلماء أن يفهموا الناس هذه الأمور وغيرها، وأن لا يضربوا كلام بعضهم بعضاً، وأن يحترم كل عالم فتوى أخيه، وإلا سيتحجر العقل، وسنقف عند فتاوى قديمة دون تقدم في الفقه والفهم وسنتراجع مئات السنين، خوفاً من الخطأ في الفتيا، وأقول يا له من دين لو كان له رجال!