محمد السمّاك

صدر للمستشرق اليهودي الأميركي برنارد لويس كتاب جديد عنوانه quot;الايمان والقوة: الدين والسياسة في الشرق الأوسطquot;. ويشغل الدكتور لويس منصب أستاذ الدراسات الشرق أوسطية في جامعة برنستون الأميركية. وهو معروف بأنه أحد أهم المتخصصين في الدراسات العثمانية. غير ان دوره السياسي تعدى الميدان العلمي والأكاديمي اذ أصبح المستشار والمرجع الفكري الأول لإدارات أميركية عديدة حول شؤون الشرق الأوسط.
فعلى سبيل المثال وضع برنارد لويس في عام 1978 دراسة، بناء لطلب وزارة الدفاع الأميركية، أسست لنظرية quot;وجوب اعادة النظر في الخريطة السياسية للشرق الأوسط من باكستان حتى المغرب، بحيث يكون لكل جماعة دينية أو مذهبية أو عرقية كيان سياسي خاص بهاquot;. يومها كان الاتحاد السوفياتي في ذروة قوته. وكان الصراع الأميركي السوفياتي محتدماً. وكانت الشيوعية كحركة سياسية وليست كحركة عقائدية تشق طريقها الى دول المنطقة. وقد برر الدكتور لويس اقتراحه بأن الكيانات السياسية القائمة لا تراعي حقوق الأقليات الدينية والعرقية فيها، الأمر الذي يجد فيه الاتحاد السوفياتي منفذاً للتسلل الى المنطقة واستقطاب هذه الأقليات تحت الشعارات الشيوعية البراقة.
وقالت دراسته انه اذا ساعدت الولايات المتحدة هذه الأقليات على اقامة كيانات خاصة بها فانها لن تقطع الطرق فقط أمام التغلغل السوفياتي، ولكنها سوف تضمن ولاء هذه الكيانات السياسية واعتمادها عليها. وقد تبنت إسرائيل فيما بعد هذه الدراسة أساسا لاستراتيجيتها في المنطقة وكان ذلك في عام 1980 على أمل أن يشهد عقد الثمانينات بداية ولادة هذه الدول الاثنية الكردية والأمازيغية والافريقية والدينية المذهبية السنية والشيعية والدرزية والعلوية. ويقع غزو إسرائيل للبنان في عام 1982 في اطار تنفيذ هذه الستراتيجية التي تحاول الآن ان تجعل من العراق بعد الاحتلال الأميركي، مدخلاً وقاعدة جديدة لتجديد اطلاقها.
وليس في ذلك أي مبرر للاستغراب، فالدكتور برنارد لويس كان أحد أقطاب المجموعة التي خططت فكرياً في عهد الرئيس السابق جورج بوش الابن لغزو العراق وكانت نظريته تقول: quot;ليس مفيداً التساؤل بعد 11 أيلول 2001 لماذا يكرهنا المسلمون، بل ان من المفيد اعادة صياغة السؤال بحيث يكون: لماذا لا يخافنا المسلمون؟quot;، وقد برر ذلك بأن كراهية المسلمين ليست مهمة في حد ذاتها، بل المهم هو لماذا لا يخافون من الغرب (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي). وعلى أساس هذه النظرية وضع مخطط غزو كل من أفغانستان والعراق، وهو مخطط لا يستهدف اقناع المسلمين بعدم كراهية الغرب، ولكنه كان يستهدف وبشكل واضح تخويف العالم الاسلامي من الغرب.
لقد كان لويس ولا يزال- من الأصدقاء المقربين من الدكتور هنري كيسنجر وزير الخارجية الاسبق. وكان عقله المنفصل في التخطيط للعديد من المبادرات السياسية التي تولاها كيسنجر في الشرق الأوسط. ولذلك تصف المراجع الأكاديمية الأميركية الدكتور لويس بانه اكثر المفكرين السياسيين تأثيراً في السياسة الخارجية الأميركية. ورغم انه تجاوز التسعين من عمره (من مواليد 1916) فانه في كتابه الجديد حول quot;الايمان والقوةquot; يواصل رسالته المعادية للمسلمين باعتباره كبير المستشرقين الأميركيين وذلك من خلال صياغة قواعد وأفكار تجد طريقها الى المطبخ السياسي الأميركي.
في هذا الكتاب الجديد يقول لويس: quot;ان القاعدة في الولايات المتحدة هي استخدام المال للوصول الى السلطة، اما في الشرق الأوسط فان القاعدة هي استخدام السلطة للوصول الى المالquot;.
وحول الصراع العربي الإسرائيلي يركب الدكتور لويس quot;قاعدةquot; تقول: quot;اذا كان الصراع هو حول حجم إسرائيل، فان المباحثات السياسية مهما كانت طويلة وشاقة - يمكن أن تحل المشكلة.. اما اذا كان الصراع هو حول وجود إسرائيل فان المباحثات الجدية سوف تكون مستحيلةquot;.
وفي كتابه الجديد ايضاً، وصف الدكتور لويس ما سماه quot;الديكتاتوريات الشرق اوسطيةquot; بأنها مثل النازية الألمانية والشيوعية الروسية، تحتاج دائماً الى الحروب من أجل تبرير وجودها واستمرارها. وترجمة ذلك ان السلام لا يمكن أن يبصر النور الا اذا انهارت هذه الأنظمة وانهزمت. ويذكر الدكتور لويس ايضاً ان على الغرب ان يختار بين أمرين، اما أن quot;يحررquot; دول الشرق الأوسط وذلك عن طريق تقسيمها الى دويلات أو أن يتوقع الدمار على يد هذه الدول؟.
وكان الدكتور لويس هو صاحب النظرية التي رددها مراراً الرئيس الأميركي السابق جورج بوش والتي تدعي quot;ان الديمقراطيات لا تصنع حروباً، وان الديكتاتوريات لا تصنع سلاماً quot;.
ولذلك بعد أن فشل الرئيس بوش في تبرير اجتياح العراق بأنه كان ضرورياً لمنع صدام حسين من استخدام اسلحة الدمار الشامل التي يهدد بها حتى الولايات المتحدة، عمد الرئيس الأميركي الى محاولة تبرير الاجتياح بأنه ضروري لاقامة نظام ديمقراطي يكون قدوة للمنطقة كلها. فاذا بالنتيجة ان العراق خسر حتى الآن حوالي مليون ونصف المليون مواطن قتلوا نتيجة الاجتياح، وانه فقد وحدته الوطنية وبات على قاب قوسين أو أدنى من السقوط في المشروع التقسيمي للمنطقة الذي وضعه الدكتور لويس في أواخر السبعينات من القرن الماضي!!.
ثم ان نظرية تصدير الديمقراطية التي اعتمدها المحافظون الجدد طوال السنوات العجاف الثماني من عهد الرئيس بوش تسفهها الوقائع على الأرض. فالذي صنع الحرب لم تكن ديكتاتورية صدام حسين، ولكن ديمقراطية جورج بوش. ثم ان الذي صنع السلام مع إسرائيل كانت ديكتاتورية الرئيس أنور السادات، اما ديمقراطية حكومة حماس المنتخبة من الشعب الفلسطيني فانها ليست مؤهلة، وهي غير معنية أساساً، في السلام مع إسرائيل.
وهناك أمثلة عديدة اخرى خارج اطار الشرق الأوسط تسفه نظرية لويس ايضاً. فالولايات المتحدة الديمقراطية - هي التي شنت الحرب على غرانادا وبنما. ويوغسلافيا الديمقراطية - هي التي شنت الحرب على كوسوفو ودعمت الجرائم ضد الانسانية التي ارتكبتها القوات الصربية في البوسنة الهرسك. والمقبرة الجماعية (8000 ضحية) في سيبرينشتا شاهد على ذلك. حتى ادولف هتلر، ألم يصل الى الحكم في ألمانيا ديمقراطياً.. ثم دمر العالم بالحروب التي شنها شرقاً وغرباً؟.
وفي الحسابات الأخيرة، يبدو واضحاً انه لا يوجد ما هو أسوأ من نظرية quot;صراع الحضاراتquot; التي وضعها استاذ الدراسات التاريخية الدكتور صموئيل هانتنغتون لفلسفة استعداء الاسلام بعد سقوط الشيوعية وتفكك الاتحاد السوفياتي السابق، سوى نظريات برنارد لويس. فالمستشرق اليهودي، البريطاني المولد، لم يقف عند حدود وضع فلسفة لاستعداء الاسلام، ولكنه ذهب الى ابعد من ذلك، فوضع الخطط والبرامج التنفيذية التي اعتمدتها ادارات أميركية سابقة وبصوة خاصة ادارة الرئيس جورج بوش.
وآخر ما قدمه في هذا الشأن كتابه الجديد حول الدين والسياسة في الشرق الوسط. انه بذلك يقدم نموذجاً عن أسوأ وأخطر مظاهر الاستشراق.