عبد العزيز السماري

تجتاح ثقافة الشك العقل العربي، فانعدام الثقة هو سيد الموقف، وقد يحتاج الأمر إلى إعادة بناء، ومن أسباب تزعزع الثقة ظهور مقدمات تدل على تضاؤل متانة البناء الهرمي في المجتمع بدءاً من هرم القبيلة ومحافظة الأسرة، فالاقتصاد الرعوي ينحسر نتيجة لدخول المجتمعات إلى الاقتصاد الحر، والذي يحمل في مضامين تطبيقاته أدوات انهيار البناء الهرمي في المجتمع، لكن قد تكون الكارثة أسوأ إذا لم يتم تعزيز هذا التغيير بالديمقراطية، والتي تشكل العلاج الناجح لمشكلات الليبرالية الجديدة وتأثيراتها على الهوية والاقتصاد.

لم يعد شيخ القبيلة قادراً على تأمين احتياجات رعاياه، كذلك هو حال رب الأسرة والذي أصبح في وضع أصعب لضمان مستوى معيشي مقبول لكافة الأسرة، ويدخل في ذلك التنظيمات الدينية كأحد الأهداف غير المعلنة للهجمة الأحادية لليبرالية، والتي تقوم على التنظيم الهرمي المبني على الطاعة، ويبدو ذلك أقل تنظيماً في المجتمعات السنية، لكنها تظهر بوضوح في المجتمع الشيعي والذي يقوم على تقوية المرشد الديني من خلال تقديم له ما يفوق قيمة زكاة الأموال بأضعاف.

يعد التوجه الليبرالي أو الرأسمالي أو نفوذ المال أحد أهم الأسلحة الغربية لكسر قبضة أيديولوجيا وأخلاق المقاومة في بعض المجتمعات العربية والإسلامية، ولعل ما يحدث الآن هو بمثابة الحرب الباردة في المنطقة بين ثقافة المقاومة وجاذبية الليبرالية، ويساعد ذلك النجاح الغربي في تفكيك الدول الشيوعية ثم تحولها إلى الليبرالية، وتظهر محاولات جادة في فلسطين ولبنان لكسر أيديولوجية المقاومة من خلال ضخ الأموال في الأسواق ونشر أخلاق الرأسمالية، وذلك من أجل سحب البساط من تحت الزعامات الثورية التي تؤمن بالحل المسلح لاسترداد الأراضي المقدسة في فلسطين ثم استبدالها بسلطة الشركات والاستثمارات المالية.

التجربة الأمريكية في أفغانستان في طريقها للفشل وتلك سابقة تاريخية، وتملك أفغانستان سجلاً حافلاً في صد الغزاة، فالليبرالية لا تزال تواجه ممانعة، إذ ترفض المقاومة الإسلامية الانسياق خلف الوعود الغربية، كذلك لا يزال الغرب يحاول اختراق المقاومة الشيعية في الجنوب اللبناني، والذي لا يزال يحافظ على بنائه الهرمي الديني، والذي يقوم على عقيدة دينية متشددة، وعلى عدم الثقة في الآخر، لذلك تتحصن زعامته خلف الانغلاق ورفض المشروع الليبرالي، وإن كانت هناك محاولات جادة وغير مباشرة لفك الارتباط بين القادة والأهالي، فقوات اليونوفيل لا ينحصر دورها في العسكري فقط، ولكن في أيضاً اختلاطهم في المجتمع الجنوبي، وفي صرفهم للأموال الطائلة وفيه أثار غير مباشرة على حياة وأخلاق الناس.

الوجود المسلح للقوات الغربية له دور في تغيير أنماط التفكير عند الشعوب، وأيضاً في تسهيل الدخول الميسر لليبرالية الاجتماعية في المنطقة، لذلك سيترك تواجد القوات الأمريكية في العراق تأثيرات اجتماعية كبيرة، وقد تكون في حجم الكارثة إذا استمر تواجدهم، وإذا عدنا للوراء وفي تاريخ بعض الشعوب الآسيوية والأوروبية سنجد آثارا اجتماعية سيئة، ومنها انتشار الدعارة، والتي عادة ما تكون متوقعة في ظل وجود مئات الآلاف من الجنود الذكور.

سيواجه المجتمعات العربية انتشارا أكبر للفساد الأخلاقي في ظل غياب حرية التعبير المعززة بآليات المجتمع المدني، وتمثل الدعارة والانسلاخ الأخلاقي الخطر الأكبر في ظل التنامي الأحادي لليبرالية والتواجد المستمر للقوات الغربية في المنطقة، وسيكون الوضع أسوأ إذا طال مكوثهم داخل المجتمع العربي، وقد يرى البعض أن تواجدهم بمثابة الانتهاك للشرف وفض البكارة للمجتمع العربي، وفي ذلك شيء من الصحة، ويحدث ذلك بسبب ضعف مقومات المجتمع وانهيار البناء الاجتماعي والأخلاقي وأيضاً بسبب انعدام الثقة بين أعضاء المجتمع، وبسبب انتشار ثقافة الشك بينهم، وهو ما يعني أننا نحتاج أكثر من أي زمن مضى إلى إعادة بناء للسياسة العربية داخل المجتمعات، وأن تكون لدينا الشجاعة لإعادة ترتيب البيت العربي من أجل الحفاظ على بنائه الأخلاقي والأمني، ولكن من خلال مضامين ترتكز على الإصلاح والشفافية واحترام الآخر، وذلك لكي لا نكون مثل حصان طروادة في المهمة الغربية في المنطقة.