وليد نويهض

ظاهرة انتشار شبكة المخابرات (العملاء) العنكبوتية التي بدأت تنكشف وتتهاوى حلقاتها في لبنان منذ أكثر من سنة دخلت طوراً نوعيّاً باعتقال العميد المتقاعد فايز كرم. فالعميد في الجيش اللبناني ليس شخصاً عاديّاً في المعادلة السياسية بوصفه يحتل الموقع المرموق في laquo;التيار الوطني الحرraquo; الذي يرأسه الجنرال (العماد) ميشال عون. كرم صديقه الشخصي والمقرب إليه منذ أكثر من عشرين سنة ورافقه في صعوده وهبوطه وخروجه وعودته إلى بلاد الأرز في العام 2005 بعد اغتيال رفيق الحريري وخروج القوات السورية من لبنان.

خلال فترة المرافقة احتل كرم مواقع قيادية في حركة عون وكان بمثابة الرجل الثاني حين أدار مكتبه في باريس وأشرف على تنظيم علاقاته ومواعيده وترتيب اتصالاته وقنواته. وهو كان إلى جانبه في وضع الخطط ورسم السياسات وتحديد المواقف وتوضيح الخيارات واللقاءات واختيار الحلفاء والأصدقاء والرد على الخصوم.

هذا النوع من laquo;المتعاملينraquo; إذا ثبتت التهمة عليه يعتبر من الصنف الجيد والنادر في معايير عالم المخابرات لأن دوره لا يقتصر على المعلومات الأمنية والوشاية وتسريب أرقام الهواتف والسيارات وعناوين المنازل والمكاتب وغيرها من مواد صغيرة يمكن أن تقوم بها شبكات رخيصة تبتغي الحصول على إعانات مالية ومساعدات لتحسين مستوى المعاش.

كرم إذا تأكدت المعلومات عن اعترافه بالتعامل مع laquo;إسرائيلraquo; منذ ثمانينات القرن الماضي يصنف عادة في عالم المخابرات في المجال السياسي ولا يوضع في خانة الأمن. وهنا بالتحديد تكمن خطورة هذا الصنف الممتاز من المتعاملين لأنه يلعب الدور في صنع السياسة والتأثير على الحلقة الضيقة في اتخاذ قرارات ودفعها باتجاه مواقف معينة يكون لها تأثيرها على النظام العام وما تنتجه من تفاعلات وارتباكات وارتدادات أهلية تعطل إمكانات التفكير بسبب موجات التحريض والتأليب ونقل معلومات خاطئة واختلاق أزمات وافتعال مشكلات واختراع أعداء وابتكار سيناريوهات وهمية تجرجر الحلفاء إلى صدامات وفراغات وفوضى تضعف الجبهة الداخلية وتكشف أمن المقاومة وتعزلها عن محيطها الحيوي.

الصنف السياسي من المتعاملين أخطر استراتيجيّاً من تلك الشبكات الرخيصة التي تقدم معلومات أمنية تافهة للكسب المالي وتحسين مستوى المعاش. فالاختراق الأمني مسألة خطيرة لأنه يهدد حياة الناس ويقوض مسارهم اليومي ولكن بالإمكان تجاوزه وإعادة تصحيحه بسرعة في حال انكشف أمر الشبكة وامتداد حلقاتها.

الأصعب هو الاختراق السياسي لأن هذا النوع من الصنف الرفيع المستوى يصعب احتواء تأثيراته بسهولة بسبب ما يخلفه من تشويش ذهني ينعكس على القاعدة (الشارع الأهلي) وقنواتها وتوجهاتها وتحالفاتها وشعاراتها ويومياتها لكون الطرف المشرف على إدارة الأزمات يحتل الموقع الذي يسمح له بالمشاركة في التخطيط واختيار الأعداء والأصدقاء لغايات لا تعرف إلا بعد فوات الأوان. وتاريخ المخابرات في الدول الكبرى في فترة laquo;الحرب الباردةraquo; يؤكد خطورة دور المتعاملين على المستوى السياسي (وأحياناً الإيديولوجي) في توريط الحلفاء في معارك جزئية (وهمية) تعتمد على معلومات خاطئة بسبب الإفراط بالثقة بالمصادر وقنوات التسريب.

اعتقال كرم على خلفية التخابر مع laquo;إسرائيلraquo; يوضع في مجال السياسة لا في خانة الأمن. وأكبر خطأ ترتكبه قيادة حزب الله إذا تعاملت مع الملف على المستوى الأمني فقط (وشاية وتسريب أرقام هواتف وسيارات وعناوين منازل ومكاتب) لأن هذا النوع من المعلومات يأتي عادة من الشبكات الصغيرة والوضيعة (موظف في شركة أو مصرف أو محطة بنزين أو مؤسسة اتصالات وغيرها من مواقع مهنية أو أكاديمية).

المسألة سياسية في الدرجة الأولى وهي تتصل بملفات صغيرة وكبيرة تبدأ من التصريحات اليومية والمزايدات والتصعيد الكلامي والتحريض الأهلي وصولاً إلى الموقف السلبي من حقوق الفلسطينيين المدنية والبسيطة في لبنان.

مجموع الحلقات والملفات السياسية شارك كرم في دراستها وساهم في تخطيطها وترتيبها واختيار شعاراتها وبالتالي كان من الحلقة الضيقة التي تراقب وتلاحق وتطلع باستمرار على مفاعيلها الأهلية وانعكاساتها السلبية في التأثير على الحلفاء بقصد عزلهم عن مجالهم الحيوي الذي يؤمن الحماية لأمن المقاومة وعدم انجرارها أو توريطها في معارك جزئية تعتمد ربما على معلومات خاطئة وسيناريوهات وهمية واختلاق أعداء واختراع أصدقاء.

المسألة معقدة وليست عادية ولا يمكن التعامل معها ببساطة وكأنها مجرد هفوة يرتكبها كل البشر في لحظة الضعف والسقوط. الموضوع لابد من أخذه بجدية أكبر ودراسته بعمق حلقة حلقة وورقة ورقة حتى يتم كشف ذاك الرابط أو الخيط السري الذي يجمع كل الملفات في دائرة السياسة لا الأمن. واعتقال كرم (العميد المتقاعد في الجيش اللبناني) لا يجوز التعامل معه بعيداً عن تلك العناصر التي تجمعت في روافد تيار الجنرال ميشال عون بعد عودته من باريس في العام 2005. فالمتغيرات قد تكون نتيجة مراجعة وربما تكون تلبية لتوجيهات بقصد التقرب والاقتراب إلى الحلقات الضيقة التي تنشط في مجال تقرير السياسة وليس في خانة تسريب التقارير.

ظاهرة انتشار الشبكات العنكبوتية التي تفشت في بلاد الأرز لأسباب كثيرة منها الفقر والعوز وسقوط لبنان تحت الاحتلال لأكثر من ربع قرن لا يمكن عزلها أيضاً عن الانقسام الأهلي وما يولده من كراهية وانفعالات سيكولوجية وخصوصاً عند تلك الفئات التي تحتل مناصب في التقرير واتخاذ القرار. فالظاهرة خطيرة أمنيّاً ولكنها أخطر سياسيّاً، لأن الخانة الأمنية متواضعة في التأثير على الاختيارات والتحالفات بينما المجال السياسي مفتوح على حقول يصعب على الصغير دخولها.

تعامل الكبار يختلف عن تعامل الصغار. فالأخير يمتد أفقيّاً ويقتصر على معادلة الوشاية مقابل الرشوة بينما الأول يرتفع عموديّاً إلى الأعلى ويترك تأثيره النوعي على السياسة وما تولده من تحولات تكشف في النهاية المقاومة استراتيجيّاً وتجرجرها إلى مناطق اشتباك أهلية وتعرضها لاحقاً إلى مخاطر من المحيط قبل العدو