شريف عبدالغني
بعد غد الأربعاء نستقبل شهر رمضان الكريم، كل عام وأنتم بخير. كنت أتمنى أن يأتي الشهر الفضيل وأحوالنا ليست كذلك: العراق محتل بمباركة الأشقاء، وغزة محاصرة بأيدي الأقارب، والعرب مفككون برضاهم، وعواصف الديمقراطية تهجم على العالم شرقاً وغرباً إلا على منطقتنا. لكن ما باليد حيلة، ويبدو أن من يبنون الجدران الفولاذية على الحدود مع الأهل، شيدوا جداراً عازلاً يطال السماء يمنع مرور نسائم الحرية على العالم العربي، خوفاً على الشعوب من إصابتهم بنزلة برد إصلاحية حادة لا تفلح معها أدوية الصيدليات.
ما علينا، لعل الجميع استعد لشهر رمضان، والمؤكد أن سباقاً سيندلع على ارتياد المساجد وفعل الحسنات، لكن السؤال: لماذا لا ينعكس هذا التدين على أحوالنا، ولماذا يظل العرب مجرد عالة على العالم.. فلا اختراع نقدمه، أو مخترعاً يخرج من بين ظهرانينا. وليس هناك إنتاج نتميز فيه، ولا إنجاز نحققه. كل ما نفعله أن نستهلك ما تبدعه عقول الغرب قبل أن نلعن ونسب laquo;سنسفيل جدودraquo; هؤلاء laquo;الكفرة الماكرينraquo; الذين لا يفكّرون آناء الليل والنهار سوى في التآمر علينا لإيقاف مسيرتنا ونهضتنا، رغم أننا غارقون مستغرقون في الخرافة!
في روايته laquo;قنديل أم هاشمraquo; يعرض يحيى حقي لقصة الدكتور إسماعيل الذي ذهب إلى الغرب ليتعلم فنون طب العيون وعاد إلى بيئته، التي اعتادت على علاج أمراض العيون بزيت القنديل، قنديل أم هاشم، تبركاً وأملاً في الشفاء. وهنا كان الصراع بين العقل ممثلاً في العلم، والمجتمع متمثلاً في الخرافة. وقد اصطدم العلم بالخرافة، وكاد الدكتور إسماعيل يفقد حياته ظناً من العامة أنه خرج عن الدين لرفضه استخدام زيت القنديل. لكن إسماعيل استوعب الخرافة ليقضي عليها. وقد فعلها بطل laquo;قنديل أم هاشمraquo; بأن وضع العلاج الطبي السليم في زجاجات تشبه الزجاجات التي كان يضع فيها المخرفون زيت القنديل، وأوهم المرضى أنه يعالجهم بزيت القنديل. وحينما اطمأن الناس له، وللعلم الذي أتى به وللعقل الذي يمثله، كان عليه أن يصارحهم بأن علاجه الموضوع في زجاجة الزيت ما هو إلا نتاج العلم والطب والعقل.
هذا في الرواية لكن في الواقع لم يفلح أي عالم في علاج الخرافة التي تعشش في الأذهان العربية. فأحمد زويل عاد من الولايات المتحدة محملاً بأرفع الجوائز العلمية (نوبل)، وحينما أراد إفادة بلده بعلمه وخبراته وتحدث عن مشروع جامعة عصرية، إيماناً منه بأن العلم هو مفتاح التقدم، ماذا فعلوا معه؟ طلبوا منه أن يأتي بالتمويل بنفسه، أي أن يلفّ على العالم يمد يده laquo;لله يا محسنين.. جامعة للغلابة والنبي.. ربنا ما يرميكم في فيمتو ثانية ضيقraquo;. زهقوا العالم الكبير حتى طفّشوه وأعادوه إلى قواعده سالماً في الغرب الذي يعرف قيمته.
ونظرة إلى عالم الفضائيات الممتلئ بقنوات دينية، كفيلة بترجمة ما نحن فيه، فالسائد هو دين المظهر لا الجوهر.. نفعل الشيء ونقيضه في كل تصرفاتنا. نتحدث عن العبادات في رمضان، وفي الوقت نفسه نجهّز أكبر كمّ من المسلسلات والفوازير وبرامج المسابقات لزوم تسلية الصيام.
الازدواجية لا تقتصر على فئة دون أخرى. فكلنا في التناقض عرب.. في السياسة المسؤولون يبدؤون أحاديثهم باسم الله، قبل أن يزوّروا الانتخابات ثم يحمدون المولى عزّ وجلّ على ثقة الشعب. كثير من رجال الأعمال يذهبون إلى الحج سنوياً ويغدقون المساعدات للفقراء وهم في الأساس نهّابون للبنوك، غسّالون للأموال، مغرقون للعبّارات في البحار، يؤجرون القتلى المحترفين للتخلص من غرمائهم حتى لو كانت مطربة كسيرة ضحية التفكك الأسري. في دائرة هشام طلعت مصطفى بالإسكندرية يؤكدون أنه مظلوم. لا يهمهم كم الأراضي التي حصل عليها من الدولة -أي أنها أساساً ملكية عامة للشعب- بتراب الفلوس، ثم يجني من ورائها المليارات التي تتيح له رفع laquo;فيزيتةraquo; القتل إلى 2 مليون دولار غير الفكّة، وأجر المحامي الواحد إلى 5 ملايين دولار دون حساب المشاريب. لا يهمهم هذا كله، بل يريدون فقط كيلو اللحم الذي يحصلون عليه من أي ذبيحة ينحرها خلال رمضان.
المفارقة أن التستر وراء الدين قد يكون وراءه كارثة. قبل سنوات كنت أزور رجلا كُسرت ساقه. laquo;سلامتك يا حج محمد.. إيه السببraquo;، عندما سألناه حكى حكاية طويلة عريضة مليئة بالكلمات والنصائح الدينية.. قال إنه في ساعة تجلٍّ صحا ليصلي الفجر، وقرر الذهاب إلى مسجد بعيد حتى يكون الثواب أكبر، وفي طريق العودة كانت إحدى النسوة -كما يحدث في الريف المصري- سكبت إناء مياه متسخة في الطريق، laquo;فاختل توازني وتزحلقت ووقعت وانكسرت رجلي، والحمد لله على كل شيءraquo;، هكذا ختم الرواية. لكن المفاجأة التي عرفتها لاحقا أن laquo;الحج محمدraquo; كان في منزل امرأة، وحضر أحد أقاربها على غفلة، فحاول صاحبنا الهرب مسرعاً فسقط من الشباك وكسرت رجله!
في استفتاء أجرته شبكة laquo;بي.بي.سيraquo; اتضح أن المصريين هم أكثر الشعوب تديناً، واستدلت الشبكة على هذا التدين من انتشار ألفاظ دينية في أحاديث الناس في الشارع ومع بعضهم البعض، مثل laquo;إن شاء اللهraquo; وlaquo;ربنا يسهلraquo; إلخ.. لكن المفارقة أن هذا التدين اللفظي يتزامن معه كمّ من الرشوة والفساد منتشر بين العوام قبل المسؤولين، حتى إن وزير التنمية الإدارية المصري قال مؤخراً إن أكبر مشكلة تواجه الجهاز الإداري للدولة هي laquo;الرشوةraquo; التي يطلبها كثير من موظفي الحكومة مقابل إنجاز أعمالهم، مشيراً إلى أن الموظف من هؤلاء يؤدي الصلاة ثم سرعان ما يعود ليفتح درج مكتبه ليتلقى laquo;المعلومraquo; بحسب تعبيره. لكنك لو ذهبت إلى أحد هذا الصنف من الموظفين في رمضان وفي يدك laquo;المعلومraquo;، سيفاجئك بالرفض، قبل أن يقول لك: laquo;رشوة في الشهر الفضيل مكروهة، إديني شيك بالمبلغ أصرفه بعد العيدraquo;!!
التعليقات