الحسين الزاوي

إن الذي يتأمل المشهدين الإقليمي والدولي الذي تقف على عتباته سوريا بعد سنوات قليلة من محاولة عزلها ووضعها في خانة الاتهام، يمكنه أن يصل إلى قناعة مؤداها أن القيادة السورية تمكنت من تحويل المشاريع العدائية لخصومها إلى نقاط قوة تخدم مصالحها القومية من أجل بلورة استراتيجية إقليمية جديدة، تأخذ بعين الاعتبار مختلف المتغيرات الحاصلة في المنطقة في محاولة من أجل تفادي الفخاخ العديدة التي نصبتها القوى الدولية بالتنسيق مع ldquo;إسرائيلrdquo;، من أجل فرض شروط تسوية على المنطقة تخدم المصالح الصهيونية العليا . ومن نافلة القول أن نؤكد في هذا السياق أن احتلال العراق مثّل اللبنة الأولى لمشروع أمريكي وغربي، كان يطمح إلى إعادة رسم خريطة شرق أوسط جديد، لكن أحلام المحافظين الجدد في أمريكا تبخرت أمام جدار الصد والممانعة الذي قادته سوريا بالمنطقة . حيث إنه وبعد سنوات قليلة من بداية إحكام الحصار على سوريا بدأت مشاريع الهيمنة الأمريكية تتهاوى تِباعاً، فبعد أن كانت القيادة الأمريكية تريد أن تُدخل المنطقة برمتها في مسلسل تطبيعي شامل، فإنها لم تعد تطمح في هذه المرحلة إلى أكثر من عودة إعلامية باهتة لحملة العلاقات العامة بين السلطة الفلسطينية وحكومة نتنياهو .

وهكذا فإن المواقف السياسية السورية تعزَّزت على أكثر من صعيد، فموضوع المحكمة الدولية الذي كان يراد له أن يتحوَّل إلى سيف مسلط على رقبة القيادة السورية، بات قاب قوسين أو أدنى لأن يتحول إلى خنجر مسموم في خاصرة ldquo;إسرائيلrdquo;، خاصة بعد القرائن الجديدة التي أعلن عنها السيد حسن نصر الله في مؤتمره الصحافي الأخير، لينقلب بذلك السحر على الساحر .يحدث كل ذلك في لحظة أضحت تواجه فيها ldquo;إسرائيلrdquo; تحقيقاً أممياً، قد يكون الأول من نوعه وتُجهل حتى الآن انعكاساته الكاملة، وذلك إثر هجومها الهمجي الغادر على أسطول الحرية في المياه الدولية .

كما أن العلاقات السورية بالقوى الرئيسية والفاعلة بالمنطقة عرفت انطلاقة جديدة خاصة بعد المصالحة السورية السعودية، التي كان من أبرز محطاتها الزيارة التاريخية المشتركة لكل من العاهل السعودي والرئيس السوري إلى لبنان من أجل نزع فتيل الأزمة الداخلية في هذا البلد، ومن غير المستبعد بالتالي أن تُفضي الجهود الحالية المبذولة، إلى تحقيق مصالحة مصرية سورية . خاصة أن الرغبة السياسية الصادقة، متوفرة لدى الجانبين من أجل فتح صفحة جديدة بين هذين البلدين الكبيرين والمهمين على الساحة السياسية العربية .

وكانت العلاقات السورية اللبنانية قد شهدت في وقت سابق انطلاقة جديدة وفق أسس راسخة مبنية على الاحترام المشترك، غداة الزيارات المتتالية التي قامت بها القيادات السياسية اللبنانية إلى دمشق، وخاصة زيارة كل من الرئيس اللبناني ميشال سليمان ورئيس حكومة الوحدة الوطنية سعد الحريري، الذي أكد على الطابع الاستراتيجي والحيوي للعلاقات الثنائية بين سوريا ولبنان . ذلك أن هذه الزيارات المتتالية سمحت بضخ دماء جديدة في جسد العلاقات الأخوية بين البلدين الجارين، اللذين تجمع بينهما أواصر التاريخ والدم .

وبعد مرحلة المد والجزر التي عرفتها العلاقات بين دمشق وبغداد، فإن سوريا أضحت في الآونة الأخيرة البوابة المفضلة لمختلف السياسيين العراقيين، وقد استطاعت سوريا أن تحقق إنجازاً غير مسبوق على مستوى العلاقات بين الكتل العراقية، حينما تمكنت من إنجاز تقارب تاريخي وهام ما بين التيار الصدري والقائمة العراقية . واستطاعت الدبلوماسية السورية من ناحية أخرى أن تدفع بعلاقاتها مع تركيا إلى مزيد من التطور والتقدم البنّاء، لتصبح بذلك الدولة العربية الرئيسية التي تمكنت من ربط علاقات قوية ومتينة مع دولتين إسلاميتين كبيرتين هما إيران وتركيا، كما أنه لا يمكننا أن نغفل في هذا السياق الدور السوري اللافت في توطيد العلاقات التركية الإيرانية، وتحويلها من علاقات تتسم بالتنافس بين القوتين الإقليميتين إلى علاقات قائمة على التكامل واحترام المصالح المشتركة للبلدين .

أما على المستوى الدولي فإن القيادة السياسية السورية استطاعت أن تحقق إنجازات معتبرة على أكثر من صعيد، فعلى مستوى العلاقات الفرنسية السورية، استطاعت دمشق أن تُقنع ساسة باريس أنه لا يمكنهم أن يحلموا بالاضطلاع بأي دور سياسي في المنطقة بعيداً عن البوابة السورية، خاصة وأن سوريا تعتبر من البلدان القليلة في المنطقة التي تمتلك أوراقاً استراتيجية مهمة يمكن استثمارها من أجل منافسة الدور الأمريكي الجارف في الشرق الأوسط، وفضلاً عن ذلك فإن فرنسا لا يمكنها أن تحافظ على علاقاتها المتميزة مع لبنان من دون موافقة مسبقة من حلفاء سوريا في لبنان .

وعلى خلاف الفتور الذي اعترى العلاقات الإيرانية الروسية بعد الموقف الروسي المؤيد للعقوبات على إيران بشأن ملفها النووي، فإن العلاقات الروسية السورية بقيت محافظة على وهجها خاصة أن سوريا استطاعت أن تحوِّل العلاقات العسكرية المتينة بين البلدين إلى علاقات منفعة مشتركة يُصبح ممكنا بمقتضاها للأسطول البحري الروسي بالتوقف والانطلاق من الجبهة البحرية السورية المطلة على البحر الأبيض المتوسط .كما استطاعت القيادة السورية أن تستثمر الوقت لصالحها من أجل امتصاص عدوانية واشنطن ضدها، فقد وصلت العلاقات الأمريكية السورية في هذه المرحلة إلى نوع من الاستقرار بعد أن باءت كل المحاولات الأمريكية من أجل عزل سوريا بالفشل .

ويمكن القول تأسيساً على ما سبق أن التطورات الكثيرة التي أتينا على ذكر بعض عناصرها تؤكد أن سوريا استطاعت أن تبلور مقاربة جديدة لطبيعة العلاقات الإقليمية والدولية في منطقة الشرق الأوسط، مقاربة تقوم على مرونة فائقة في اتخاذ المواقف ورسم السياسات ولكن من دون التفريط في الثوابت القومية والوطنية، وهي معادلة سياسية شديدة الدقة والحساسية استطاعت سوريا أن تصوغها بكثير من الحنكة والاقتدار .