يوسف عبدا لله مكي
مهما اختلفت الرؤى، وتعددت المسارب، واتجهت العواطف والهوى، تظل وظيفتا الأديب والسياسي تسيران في خطين متوازيين، مهما غلفهما التضاد والتنافر، ووجودهما ضرورة حضارية واجتماعية لا غنى عنها، وكل منهما بحاجة إلى الأخرى
العلاقة بين الفكر والسياسة علاقة معقدة ومركبة. معقدة لأنها تمثل تلازم المثالية والميكيافيلية، ومركبة لأنها تعبر عن وحدة النقيضين. قليل جدا من الناس، تمكنوا من خوض تجربة الجمع بين وظيفتي الفكر والسياسة، وقليل جدا من هؤلاء، استطاعوا الإفلات من براثن إحداهما، فجمعوا بين روح الفنان والمبدع، وبين جدية وانضباط السياسي المسؤول. وكان ذلك دائما هو الاستثناء.
فالأديب في جل المجتمعات الإنسانية، وظيفته مخاطبة الروح، والاقتراب من معاناة الإنسان، ويعمل دائما في مساحات مفتوحة ولا نهائية. يرنو الشاعر أو الفنان دائما، للالتحام بالحقيقة وبالمطلق. وهامش النسبية يضيق في تفكيره، ورحلة الكشف مستمرة، ليس فيها انقطاع. وهو بطبيعة ثقافته ونوع وظيفته، كائن رومانسي وحالم، يلتقي مع الفيلسوف، في أن كليهما يجري في مخياله، تعديلات مستمرة على لوحة الوجود، تشمل الأفكار والقيم السائدة، باتجاهات صاعدة.
في حين تتلخص وظيفة السياسي، في حفظ الأمن والنظام، وسلامة الأموال والأرواح. ولذلك فهو بطبيعة تكوينه، كائن محافظ. فمهمته هي تجنب الأهوال والمخاطر، التي قد تعصف بالأمن والسلام. يعيش السياسي باستمرار واقع التحسب والتحفز، متجنبا روح المغامرة. ومن غير شك، فإن التحسب والتحفز يحجبان أبواب المبادرة والإبداع، وكلاهما ربما يحملان في رحمهما، عناصر تعرض الوطن والمجتمع للمجهول. ولذلك يتمسك السياسي بما هو سائد من أفكار وقيم. إن الحاضر بالنسبة له معلوم، والمستقبل مجهول، وإذا كان بالإمكان التعايش مع الحاضر، والتعامل معه لكونه معلوما، فإن المجهول هو بحكم المعدوم. إن المغيب والمجهول، نتائجهما دوما غير مضمونة، وربما تطلبت المبادرة من السياسي، مراجعة أنظمته ولوائحه وقوانينه، لكن ذلك مهما بلغ في دقته، ليس من المؤكد ضمان نتائجه. ولذلك يفضل السياسي أن يكون حارسا لما هو كائن.
لكن التناقض الواضح، بين السياسي والمفكر ليس سببا كافيا في سيادة قانون وحدة المتضادات. فطبيعة السياسي والمفكر مهما اختلفت، في العواطف والأفكار والرؤى، فإن عنصر الوحدة بينهما يضغط بقوة، تجعل من الصعب الفكاك بينهما. فماذا تعني أحلام الأديب شاعرا أو روائيا، إن لم يحتضنها سياسي يؤمن بها، ويدفع بها من الحلم إلى الإرادة.
وهكذا مهما اختلفت الرؤى، وتعددت المسارب، واتجهت العواطف والهوى، تظل وظيفتا الأديب والسياسي تسيران في خطين متوازيين، مهما غلفهما التضاد والتنافر. ووجودهما ضرورة حضارية واجتماعية لا غنى عنها، وكل منهما بحاجة إلى الأخرى. فالمفكر سوف تبقى أحلامه معلقة في الهواء. وربما تحولت إلى نظريات ومناهج للفكر والعمل، ولكنها كي تتحول إلى واقع لا بد من سياسي يحتضنها ويعمل على ترجمتها وتحويلها إلى أمر واقع.
لعل الراحل العزيز الدكتور غازي القصيبي، قد أدرك في وعيه الباطن، أو بعقله الفطن أهمية المزاوجة بين الفنان والسياسي، فاختط طريقه الخاص والاستثنائي لكتابة سيرته الذاتية، على أرض ممارساته الحياتية، فكرا وعملا، في مسيرة حافلة بالعطاء في خطين متوازيين: خط الأديب والفنان، وخط الوزير والمدير المسؤول بالدولة. لقد كان رحمه الله واحدا من القلة النادرة، التي قبلت بالسير في المعادلة الصعبة، التي جمعت روح الشاعر والروائي والفنان والمبدع، والقدرة الاستثنائية على الضبط والربط، في الوظائف التي شغلها، سواء كأكاديمي في جامعة الملك سعود بالرياض، أو المناصب المختلفة التي تولاها، وزيرا للصناعة والصحة والمياه والعمل.
هل نجح القصيبي تماما، في تحقيق الفصل بين دوره أديبا ومبدعا، ودور المسؤول السياسي. الواقع أن الجواب هو بـ quot;نعمquot; وquot;لاquot; في آن معا. لم يمارس القصيبي في حياته الوظيفية حالة انفصام بين الأديب والمسؤول السياسي، بل نقل روح الفكر والإبداع إلى عمله. فجعل من وظائفه الأخرى، حقولا جديدة لعطاء مبدع من نوع آخر.
فهو كأديب، لم يكن له أبدا أن يتجاوز سلطة الفضاءات المفتوحة، التي تطغى على روح الأدباء والمبدعين من شاكلته. فكما تعامل مع الأدب، بدون نهايات، تعامل مع الوظيفة بروح الأديب والمفكر الملتزم، مسخرا خبرته العلمية، لما ينفع الناس.
انحاز الراحل الكبير، طيلة حياته الوظيفية، لروح المثقف، المتطلع دائما إلى المستقبل، رافضا مقولة أن ليس بالإمكان أبدع مما كان.
أمضى الشاعر مرحلة شبابه الأولى بالبحرين، حيث بدأ تعليمه، ثم انتقل إلى القاهرة، حيث نال ليسانس الحقوق من جامعة القاهرة وتحصل على الماجستير في العلاقات الدولية من جامعة جنوب كاليفورنيا، وعلى الدكتوراه في العلاقات الدولية من جامعة لندن.
في محطاته التعليمية، بدأت مواهبه الشعرية تبرز بوضوح، منذ كان طالبا بالبحرين، ثم في القاهرة. وقد استلهم روايته quot;شقة الحريةquot;، من تجربته أثناء دراسته الجامعية، ومن المناقشات والمطارحات السياسية والفكرية التي سادت أثناء تلك الحقبة. فيما بعد، كتب روايتي أبوشلاخ البرمائي والعصفورية، وفي الروايتين، تأثر بشكل واضح بكتابات الروائي نجيب محفوظ، وفيدور ديستويفسكي. وللفقيد إسهامات صحفية، نشرت في كثير من الصحف والمجلات العربية، واتسمت بالعمق والثراء. وله دواوين شعرية مطبوعة منها quot;معركة بلا رايةquot; وquot;أشعار من جزائر اللؤلؤquot; وquot;حديقة الغروبquot;. كما أن له مؤلفات في التنمية والسياسة منها quot;التنمية، الأسئلة الكبرىquot; و quot;عن هذا وذاكquot; وquot;باي باي لندنquot; ومقالات أخرىquot; و quot;الأسطورة دياناquot; وquot;أقوالي الغير مأثورةquot; و quot;ثورة في السنة النبويةquot; وquot;حتى لا تكون فتنةquot;.
ويعد كتاب quot;حياة في الإدارةquot; أشهر ما نشر له، وتناول سيرته الوظيفية وتجربته الإدارية حتى تعيينه سفيراً في لندن. وقد وصل عدد مؤلفاته إلى أكثر من ستين مؤلفاً. له أشعار لطيفة ومتنوعة.
رحيل الفقيد، الدكتور غازي القصيبي خسارة لا تعوض للأدب في بلادنا، وسوف يفتقده قراؤه ومحبوه، في عموم الوطن العربي الكبير، وبشكل خاص في المملكة والخليج العربي. وسوف تفتقده أيضا، مؤسسات الدولة، التي ارتبط بها وعشق العمل في دوائرها، فقد كان نموذجا للنزاهة والصدق والمبادرة والإبداع، والقدرة على الربط بين المعايشة السلوكية الأخلاقية، وطغيان روح التسامح والمودة وحب الخير، والرغبة في مساعدة الناس، وبين الحزم والضبط والربط.
سيبقى الفقيد حيا دائما في ذاكرة وطنه، نسأل الله العلي القدير أن يتغمده بواسع رحمته، ويسكنه فسيح جناته، ويلهم ذويه ومحبيه الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.