أحمد عبد الملك
نظمت مؤخراً في مدينة أصيلة بالمغرب ندوة quot;حوار الثقافات العربيةquot;، ضمن موسم المدينة الثقافي الدولي رقم 32، حيث كانت دولة الإمارات العربية المتحدة ضيف الشرف لهذه الدورة.
وإلى جانب اللوحات التشكيلية والصور الفنية المعبرة عن ثقافة الإمارات، وكذلك أهازيج الفرقة الشعبية ورقصاتها التي اجتذبت الجمهور المغربي، فإن ندوة quot;حوار الثقافات العربيةquot; أخذت حيزاً كبيراً من تفكير المثقفين العرب الذين توافدوا على أصيلة. وكانت محاور الندوة قد ركزت على الآتي:
bull; واقع الثقافات العربية بين المنظور القومي والمنظور القُطري والإقليمي.
bull; حوار الثقافات بين المركز والأطراف.
bull; الثقافات العربية في مواجهة العولمة.
ولقد كان عنوان الندوة صادماً، إذ تعوّد العربُ على الحديث عن quot;ثقافة عربيةquot; وليس عن ثقافات! وعلى إثر ذلك دار حوار مثير وطويل حول جملة ثقافية تراثية تقول: quot;إن القاهرة تكتب، وبيروت تطبع، وبغداد تقرأquot;؟.
ويبدو أن هذه المقولة ما عادت صالحة لهذا الزمان! وقد دافع الإخوة المغاربة والمشارقة عن وجهات نظرهم في ضرورة وأد هذه المقولة التراثية، التي غيّرت ملامحها وصدقيتها حتميات سياسية واقتصادية وثقافية وتكنولوجية. وأشار أمين عام منتدى أصيلة محمد بن عيسى إلى أننا لا يمكن أن نتحدث عن ثقافة عربية في الوقت الذي نجهل فيه الثقافات القُطرية (بضم القاف) والمحلية. وأن الثقافات تعني التنوع والتعدد، وهذا واقع حال الأمة العربية. وأن القول بثقافة عربية واحدة قد حتمته الأوضاع السياسية في الوطن العربي. حيث لجأ السياسي إلى الأسلحة التعبوية الممكنة لمواجهة الاستعمار وبناء الدولة، ومنها الثقافة.
أما وزير الإعلام اللبناني الدكتور طارق متري فقد أشار إلى ضرورة قيام حوار ثقافي على أساس التكافؤ، وضرورة رفع الصور النمطية السائدة التي أسرت الذات، وأن يكون هنالك حوار متكافئ بين المركز والأطراف، كما أن التنوع الثقافي -حسب رأيه- على عكس ما يعتقده كثيرون، يعزز المشروع الوحدوي، بعكس الانغلاق على الذات، أو الحديث عن (الخصوصيات) التي تقطع الأواصر على المستوى الثقافي.
وقد انقسم المنتدون بين مؤيد لفكرة القومية السائدة، وبين ضرورة البحث عن أفكار جديدة بعد انهيار عصر النهضة التنويري الذي أعقب حملة نابليون على مصر، وتصدع عمليات الإصلاح في المشرق والمغرب. تماماً كما حدث تنوع بين quot;سلفيةquot; المغرب و quot;سلفيةquot; المشرق!. حيث استطاعت quot;سلفيةquot; المغرب استيعاب التيارات الليبرالية، في الوقت الذي تعثر هذا التوجه في المشرق، وظلت التيارات الليبرالية في الظل، ورأى البعض أن القول بحوار الثقافات، إنما هو وسيلة أو إجراء لتعزيز صراع الثقافات، حتى بين العرب والغرب! ذلك أن العرب ما زالوا يستهلكون إنتاج الغرب، ولا توجد مساحة تبادلية في هذا المجال.
وبرأينا أن أكبر الأخطاء التي ارتكبتها بعض الحكومات العربية المتعاقبة هو تسييس الثقافة! وربطها بالتوجهات السياسية ما ساهم في وجود أشكال quot;تغريبيةquot; للثقافة العربية. كما طغى quot;الكهنوتquot; السياسي على تلك النشاطات التي تقوم بها الدول، ما أبعدها عن خصوصيتها أو عمقها الشعبي. ودخلت السياسة لتفت من عضد الثقافة بتحويلها إلى رموز مقاربية لطبيعة العلاقات بين الدولة ونظيراتها، تماماً كما طغت التوجهات الاقتصادية، حيث تبدلت مناظير الذائقة البصرية للناس، وتلاشت الأبنية المحلية ذات البساطة والرحابة. كما نلاحظ التأثر السلبي بالأنماط الغنائية الغربية، حيث تم هجر الإيقاع المحلي ولبست الأغاني لباس الغرب، بل إن التسليع يطال أيضاً الكلمات التي ما عادت تحمل قيم التسامح أو الرقة أو الحنان أو الشوق، ناهيك عن تلاشي اللغة العربية في الإعلام العربي والاهتمام باللغة الأجنبية ومخرجات الكمبيوتر. وكل ذلك تم بفعل تسييس الثقافة وانتزاعها من ثوبها الإبداعي الحر (المحلي أو الإقليمي أو العربي).
كما دارت نقاشات مهمة حول محور ثقافات المركز وثقافات الأطراف! ولوحظ أن المركز -أينما كان- قد تعرض لحالات من الوهن، ولم يعد له ذاك الوهج إبان المدّ القومي، وأن المُعتَقد الليبرالي -الذي قوبل بتحفظ شديد ومتفاوت بين الشرق والمغرب العربي- قد أضاف بُعداً جديداً لعلاقة المركز بالأطراف! على رغم أن الليبرالية لم يكن لها وجهٌ مشرق في التصور العربي، وذلك لعدة اعتبارات، ولربما لأنها جاءت بعد أفول نجم الماركسية والأفكار الاشتراكية التي غزت العقول في الخمسينيات من القرن الماضي. والتي اعتبرتها بعض الأنظمة quot;مطيةquot; لمقاومة الاستعمار، بحكم ثنائية القطب آنذاك، وفي ذات الوقت قوبلت الليبرالية بتشدد واضح كونها قد تدعو إلى رفض الأعراف والتقاليد.
وفي رأينا أن الفكرة الليبرالية نشطت في المغرب العربي أكثر من نشاطها في المشرق لاعتبارات سياسية وجغرافية واقتصادية وثقافية. فالدولة الحديثة في المغرب لم تمرّ بنفس ظروف الدولة الحديثة في المشرق! وشكلت العلاقات مع الدول الكبرى دوراً مهماً في تشكل النهج السياسي أو الأفكار السياسية التي quot; قولَبتquot; الاتجاهات الحياتية، ومنها الثقافة، في المنطقة العربية. ولذا برزت في المغرب العربي قيم التعاقد وتفاعلية العقل، والحد من سلطة الدولة أكثر مما برز في المشرق العربي! تماماً كما نشأت الدعوة إلى نيل الحقوق والمساواة -بغض النظر عن الفروق الفكرية والدينية والإثنية- ولقد اعتبر البعض أن الخلفية الليبرالية الثقافية هي نواة فكرة الحداثة. ولذا فإن الحديث عن ثقافات عربية لم يكن نهجاً مستهجناً في ظل الواقع والظروف التي مر بها الوطن العربي. وهذا ما أثبتته الندوة.
كما أن العولمة -وهي أحد المحاور المهمة في الندوة- قد طرحت نفسها كمؤشر واضح ضد فكرة (الوحدة) أو الاتحاد الشمولي الذي سقط في المجال السياسي، لأن العولمة تعزز التنوع وتلغي التوحّد. كما أن قرنَ العولمة بالأمركة يعتبر ثقافة انهزام ووَهن، إذ على رغم هيمنة التقنية والمعلوماتية الغربية على الحياة العامة في العالم، إلا أن دولاً مثل الصين وسنغافورة وماليزيا قدّمت نماذج مبهرة في قضية التعامل مع التطور التكنولوجي. كما أن الثنائيات -كما قال علي حرب- لم تعد مجدية، مثل: quot;أنا والآخرquot;، وquot;الأصالة والمعاصرةquot; والمطلوب تجديد المفاهيم والعدة الفكرية للمساهمة في صيغ حضارية ديمقراطية مدنية. وطرحَ موضوعَ تقدم الغرب، بل تقدم بعض المسلمين غير العرب (أفارقة وآسيويون) في الوقت الذي تأخر فيه المسلمون العرب! على رغم سوء أوضاع بعض تلك الدول، وشيوعية بعضها المعادي للغرب.
لقد طُرحت على المحك أفكار عديدة لا يتسع المجال لطرحها هنا، ولكن بلا شك، لابد من إعادة طرح الثقافات العربية ودراستها بشكل أوسع.
التعليقات