إنما يحرقون «الإنجيل».. حين يدعون إلى «حرق القرآن»!

زين العابدين الركابي

لئن كانت القضية الأولى للقرآن هي التعريف بالله عز وجل (وكان ذلك هو موضوع مقال الأسبوع الماضي)، فإن قضيته الثانية هي laquo;التعريف بالقرآن والدفاع عنهraquo; - وهذا هو موضوع المقال الماثل - ومن تعريف القرآن بالقرآن: أنه كتاب لا ريب فيه: laquo;الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِraquo;.. وأنه معصوم من التحريف والتبديل: laquo;وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍraquo;.. وأنه كتاب laquo;تنويرraquo;: laquo;كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلمات إلى النور بإذن ربهم إلى صراط العزيز الحميدraquo;.. وأنه رسالة عالمية: laquo;إن هو إلا ذكر للعالمين * ولتعلمن نبأه بعد حينraquo;.. وأنه نزل للتفكر فيه: laquo;وأنزلنا إليك الذكر لتبين للنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَraquo;.. وأنه مصدق للكتب التي سبقته: laquo;نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالإِنْجِيلَ * مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَraquo;.. وأنه كتاب معجز: يَعْجَز البشر أن يأتوا بمثله: laquo;أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ * فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَraquo;.. وأنه كتاب نزل وفُصِّل بعلم الله: laquo;وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَraquo;.

ولقد دفع القرآن عن نفسه حملات فكرية ودعائية - تعرض لها وقت التنزيل - استهدفت التشكيك فيه، والتشويش عليه.. ومن صور هذه الحملات: اتهام القرآن بأنه إفك افتراه النبي، وأنه مجموعة أساطير: laquo;وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آَخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا * وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًاraquo;.. ومن هذه الصور: صورة التشويش على القرآن لئلا يسمعه السامع بوضوح ونقاوة: laquo;وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآَنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَraquo;. والظاهر: أن هذه الحملات الفكرية والدعائية ضد القرآن لم تطو صفحتها.. ألم يأتكم نبأ كنيسة دوف وورلد أوتريتش سنتر الأميركية التي دعت إلى تنظيم حملة عالمية لـlaquo;حرق القرآنraquo;؟!! يقود هذه الحملة قس أميركي اسمه تيري جونز الذي قال: laquo;إن على المسيحيين والكنائس والمسؤولين السياسيين أن ينهضوا ويقولوا: إن الإسلام ليس مرحبا به في الولايات المتحدةraquo;، والذي استنهض مراكز ومؤسسات دينية مسيحية أخرى للمشاركة في laquo;حرق القرآنraquo; واصفا الإسلام بأنه laquo;شيطانraquo;!!

ومع أن هذه تصرفات تحمل أعلى معدلات شحنات التهييج والاستفزاز، فإننا نلتزم المنهج الموضوعي والأخلاقي في رد هذا العدوان.. وبادئ ذي بدء لن نحمل المسيحيين كافة، والكنائس كلها، والأميركيين أجمعين وزر هذا الجنون، ففي كل أمة مجانينها الذين لا يحمل عقلاؤها تبعة جنونهم.

ثم إننا لا نخشى ولا نرتاع من هذه الحماقات. فقد مر علينا منذ ثوان صور مختلفة من الطعن في القرآن والتحريض عليه.. فماذا كانت العقبى؟.. هلكت الحملات الغابرة، وهلك أصحابها، وبقي القرآن عزيزا كريما مصونا لم يمسسه سوء.. وإنا لموقنون أن حماقات حرق القرآن ستجد المصير ذاته بلا أدنى ريب.. فهذان واقعان: واقع تاريخي - وواقع راهن، يدلان على صدق قول الله تعالى: laquo;إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَraquo;.. حافظون له من التحريف والتبديل: ومن حملات الطعن والتشويش ونداءات الحرق والإرجاف بالحرق.

وبالنسبة لخبالة الحرق؛ نستبين حماقة دعاتها من خلال حقيقتين موضوعيتين:

أولا: أن الدعوة إلى حرق القرآن جريمة كاملة، وعدوان على حقوق المسلمين جميعا.. لا شك في ذلك، بيد أن الحرق - إذا جرى - إنما يحرق أوراقا طبع عليها النص المقدس.

أما القرآن العظيم فهو laquo;محفوظ في صدور مئات الألوف من المسلمين اليومraquo;.

وحفظ القرآن في الصدور هي الطريقة الأُولى في حفظ الكتاب المجيد: منذ تنزل على قلب الرسول صلى الله عليه وسلم، وإلى يوم الناس هذا: laquo;وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ * بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلا الظَّالِمُونَraquo;.. نعم قد يفكر مجانينهم في حرق حفظة القرآن أيضا. فإن فعلوا فقد باشروا الحرب الحقيقية على الإسلام وأهله، وعندئذ يشتعل الكوكب بحرب كونية لن يكون ضحاياها المسلمون فحسب.. نعم يشتعل الكوكب بحرب تُعد الحروب الصليبية - بالقياس إليها - رحلة رفاه!!

ثانيا: الحقيقة الموضوعية الثانية التي تؤكد حماقة الداعين إلى حرق القرآن.. هي: أن الداعين إلى حرق القرآن إنما يدعون إلى laquo;حرق الإنجيل نفسهraquo;! ذلك أن القرآن هو السجل الأوحد الذي وثق الإنجيل وصدّقه.. نعم.. إن هؤلاء الحمقى يحرقون آية: laquo;وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِraquo;.. وآية البشرى البهيجة: laquo;إِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَraquo;.. وآية الميلاد العظيم المعجز: laquo;فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا * يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا * فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكلم مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آَتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ lrm;وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّاraquo;.. نعم.. نعم. إن هؤلاء الحمقى الداعين إلى حرق القرآن إنما يحرقون آية: laquo;وَإِذْ قَالَتِ الْمَلائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَraquo;، ويحرقون سورة laquo;مريمraquo; البتول الصدّيقة وهي السورة التي رفع فيها ذكر مريم، وعظم شرفها ووثق أيما توثيق: laquo;وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حجابا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لأَهَبَ لَكِ غُلامًا زَكِيًّا * قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا * قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آَيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّاraquo;.

هم يدعون إلى حرق القرآن، فهل يحل لنا أن نعاملهم بالمثل فندعو إلى حرق الأناجيل؟.. هذه دعوة حرام: منهجيا وأخلاقيا.

وحسبكمو هذا التفاوت بيننا

وكل إناء بالذي فيه ينضح